مفاتيح سورة الزخرف
|
مفاتيح سورة الزخرف |
|
أولاً:اسم السورة
وهذه السورة تسمى بـ
سورة الزخرف(1).
وذلك: لما في آيتها من الإشارة إلى أنه سبحانه، لو أراد أن يعم الكفر جميع الناس؛ لعمهم بسبوغ النعم.. ولكن لم يعمهم بذلك، بل فاوت بينهم، فأفقر بعضهم، وأكثر بؤسهم وضرهم، وفرق أمرهم؛ ليسهل ردهم عن الكفر الذي أدتهم إليه طبائعهم، وحظوظهم ونقائصهم بما يشهدون من قبائح الظلم والعدوان، إلى ما يرونه من محاسن الدين والإيمان, ولذة الخضوع للملك الديان؛ فتخضع لهم الملوك والأعيان، ويصير لهم الفرقان على جميع أهل العصيان.(2)
وقيل: سميت بذلك: لدلالة آيته على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربها؛ بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه.(3)
ويقول الأستاذ موسى جار الله: وليست التسمية بهذه الكلمة.. لوجودها في هذه السورة فقط، أو لاختصاص هذه الكلمة بهذه السورة فقط..!!
بل وجه التسمية: معنوي، من جهة كون "الزخرف" جعله الله حاكماً في قانون " التسخير" المذكور في هذه السورة { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الآية 32]
وآية "التسخير" هذه: أعظم قانون في نظام الاجتماع, وليس لها ذكر في غير هذه السورة.(4)
ثانياً : عدد آيات السورة و كلماتها و حروفها
عدد آياتها(5): (89) تسع وثمانون آية
وعدد كلماتها: (833) ثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة.
وعدد حروفها: (3400) ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف.
ثالثاً : ترتيب السورة فى المصحف و فى النزول
أ- في المصحف.. بعد: سورة "الشورى"، وقبل: سورة "الدخان".
ب- في النزول.. بعد: سورة "الشورى"، وقبل: سورة "الدخان".
رابعاً : سبب نزول السورة
لم نعثر على آثار تفيد سبب نزولها كاملة
خامساً : مكية السورة و مدنيتها
هذه السورة: مكية،
سوى قوله سبحانه { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الآية 54]
فقد قال العلماء: إنها مدنية
سادساً : فضل السورة
انظر: فضل سورة الشورى
وذلك في: مفاتيح سورة الشورى.
حيث يشتركان في هذا الفضل المذكور هناك.
سابعاً : صلة السورة بما قبلها
تتعانق هذه السورة مع ما قبلها في أمور كثيرة.. منها(6):
1- إذا كانت سورة "الشورى": قد ذكرت من خصائص القرآن.. أنه: منذر، وأنه الصيغة الوحيدة للحق والعدل، وأنه روح يحيا به الإنسان،
فإن سورة "الزخرف": تذكر من خصائص القرآن.. أنه : عليّ، وأنه حكيم، وأنه ذكر، وأنه علم للساعة.
2- إذا كانت سورة "الشورى": قد أكدت على أن القرآن لا ريب فيه، من خلال المضمون المشترك لرسالات الله، وكذلك من خلال آثار أسماء الله تعالى فيه.
فإن سورة "الزخرف": قد دللت على هذا، من خلال: ذكر خصائص هذا القرآن، وذكر مضمونه.
3-إذا كانت سورة "الشورى" قد ذكرت أن مضمون رسالات الله: هو إقامة دين الله، وعدم التفرق فيه.
وذكرت ـ كذلك ـ خصائص الجماعة التي تستطيع إقامة دين الله، والاجتماع عليه.
فإن سورة "الزخرف" قد ذكرت خصائص هذا القرآن الذي يعرض.. دين الله، ومضمونه الأعلى الحكيم، وكونه يشرف حامليه، وأن فيه علم الساعة، التي هي أعظم حدث يمر على هذا العالم.
وفي ذلك: تربية لحملة الإسلام أن يقيموه، ولا يتفرقوا فيه، مع الاعتزاز به، وعدم الإلتفات عنه، وعدم الإغترار بحال الكافرين، وما هم عليه.
ثامناً : هدف السورة
هو:(2) البشارة بإعلاء هذه الأمة بالعقل والحكمة؛ حتى يكونوا أعلى الأمم في العلم وما ينشأ عنه؛ لأن هدايتهم بأمر لَدُنِّى: هو من أغرب الغريب الذي هو للخواص.
وأن القرآن: ذكر وشرف لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكونوا أهلاً للجنة { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الآية 71]
تاسعاً : تقسيم آيات السورة موضوعيا
تتكون هذه السورة من: مقدمة، وثلاثة أقسام.(6)
المقدمة.. عبارة عن (3) آيات.
من الآية الأولى... وحتى نهاية الآية (3)
وفيها:
وصف القرآن.. بالإبانة، والفصاحة، والعلو، والحكمة،
وهذا دليل على أنه من عند الله.
وأنه ـ كذلك ـ وحده الذي به يعقل الإنسان، وبدونه لا يعقل شيئاً..
وهذا دليل ـ كذلك ـ على أن ذاتاً عليا، فوق الذوات كلها في العلم والإحاطة والحكمة، هي التي أنزلته.
وكل ذلك: مما ينفي الشك عنه, أو فيه.
والقسم الأول.. عبارة عن (40) آية
من الآية (4) حتى نهاية الآية (43)
وفيه:
ذكر بعض خصائص القرآن
ذكر سنة الله في إرسال الرسل، وموقف الخلق منهم.
مناقشة عقائد الكافرين.
التوجه بالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ تأنيساً له، وتثبيتاً.
والقسم الثاني.. عبارة عن (17) آية
وفيه:
ذكر بعض خصائص القرآن.
ذكر مضمون رسالة من رسالات الله عز وجل؛ بما يخدم الهدف من هذا القسم.
مناقشة شبهة من شبه المشركين، وردها.
القسم الثالث: عبارة عن (29) آية.
من الآية (61) حتىنهاية الآية (89) وهي خاتمة السورة.
وفيه:
ذكر خاصة من خواص القرآن، وهي كونه علماً للساعة
ثم نهى: عن الشك في الساعة، وعن صد الشيطان عن إتباع القرآن.
ثم مواجهة المشركين بما في الساعة، وتحذيرهم من عاقبة مكرهم.
ثم علاج موضوع العقيدة.. بنفي الشرك، وتأكيد التوحيد، وتوضيح قضية اليوم الآخر.
ثم يكون الختام... بتوجيه للنبي صلى الله عليه وسلم، يحمل في طياته بلاغة التهديد.
عاشراً : أبرز موضوعات السورة
وخلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد(7)
1- وصف القرآن الكريم.
2- الأمر بإنذار قومه صلى الله عليه وسلم مع غفلتهم وإسرافهم في لذات الدنيا.
3- شأن هؤلاء المشركين في تكذيبهم للرسول: شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم.
4- اعترافهم بأن الله هو خالق السموات والأرض, مع عبادتهم للأصنام والأوثان.
5- اعتقادهم أن الملائكة بنات الله, ثم نعي ذلك عليهم.
6- تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد في شئونهم الدينية.
7- قصص الأنبياء من أولي العزم, كإبراهيم وموسى عليهما السلام.
8- وصف نعيم الجنة.
9- الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت؛ ليستريحوا مما هم فيه.
10- متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتي وعد الله.
حادى عشر : بعض الدروس المستفادة
من هذه الدروس ما يلي:
فــي الآيـة الكريمـة {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الآية 44]
يقول صاحب الظلال(8) ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين:
أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير.
أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك.
وهذا ما حدث فعلاً.
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم: فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار, منذ قرابة ألف وأربعمائة عام, ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما قومه: فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحسّت اعتبرتهم على هامش الحياة.
وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية.
وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به.
فلما أن تخلَّوا عنه: أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!.
وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلّت عن الأمانة: { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}
أقول(6): في هذه الآية تذكير للعرب الذين هم الآن أكثر شعوب المسلمين تركاً للإسلام وهجراً له, وجرأة عليه وعلى أهله, مع أنه شرفهم ولولاه لم يشرفوا, وبدونه لا يبقى لهم شيء إلا الاحتقار والإزدراء من قبل الشعوب، والعذاب والحساب في الآخرة، والتسليط عليهم في الدنيا،
ومع كثرة الباحثين عن المجد للعرب بغير الإسلام، والمدّعين بأنهم راغبون في إعادة مجدهم بطرق غير إسلامية: فإن العرب يزدادون ذلة.
وصدق عمر بن الخطاب: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا به الله أذلنا الله".
2- في قوله تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} الآية 54]
قال صاحب الظلال(8):
واستخفاف الطغاة للجماهير: أمر لا غرابه فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة.
ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين.
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان،
فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح.
ومن هنا: يعلل القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
3- في قوله تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الآية 55]
قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: آسفونا: أسخطونا، وقال الضحاك عنه: أغضبونا،
وروى ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه: فإنما ذلك استدراج منه له" ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
وعن أبي طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله رضي عنه فذكر عنده موت الفجأة فقال: تخفيف على المؤمن،وحسرة على الكافر, ثم قرأ رضي الله عنه { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وجدت النقمة مع الغفلة.
1- في قوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الآية 61]
رأينا أن أرجح الأقوال عند المفسرين(6)
أن المراد بالضمير: عيسى عليه السلام، وأن نزوله في آخر الزمان علامة على الساعة، وعلم عنها.
ونحن وإن رجّحنا أن يكون الضمير عائداً على القرآن إلا أن ذلك لا ينفي أن يكون نزول عيسى في آخر الزمان علامة على قيام الساعة،
بل ذلك ثابت بأحاديث متواترة كما قال ابن كثير.
وبمناسبة هذه الآية يقول صاحب الظلال(8)
وقد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى ـ عليه السلام ـ إلى الأرض قبيل الساعة, وهو ما تشير إليه الآية: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} بمعنى أنه يُعلم بقرب مجيئها، والقراءة الثانية { وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِّلسَّاعَةِ} بمعنى أمارة وعلامة.
وكلاهما قريب من قريب.
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها"
أخرجه مالك والشيخان وأبو داود.
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة, فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل لنا, فيقول: لا, إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة".
أخرجه مسلم.
وهو غيب من الغيب الذي حدّثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم،
ومنكره بعد تواتره كافر بعد البيان أو قبله، لمن كان يعيش في دار الإسلام على خلاف بين العلماء هل يكفر بعد البيان أو قبل البيان بحكم أنه يعيش على أرض الإسلام فلا يعذر بالجهل.
5- في قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام: { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الآية 63]
قال الألوسي(10) في قوله تعالى: { بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها، ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلاً, فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك، ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلاً, فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانها أيضاً كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل "أنتم أعلم بأمور دنياكم".
وقال صاحب الظلال(8): ولقد جاء المسيح فوجدهم شيعاً ونحلاً كثيرة، أهمها أربعة فرق أو طوائف:
طائفة الصدوقيين نسبة إلى "صدوق" وإليه وإلى أسرته ولاية الكهانة من عهد داود وسليمان علهيما السلام.
وحسب الشريعة لابد أن يرجع نسبة إلى هارون أخي موسى.
فقد كانت ذريته هي القائمة على الهيكل. وكانوا بحكم وظيفتهم واحترافهم متشددين في شكليات العبادة وطقوسهم، ينكرون "البدع" في الوقت الذي يترخصون في حياتهم الشخصية ويستمتعون بملاذّ الحياة؛ ولا يعترفون بأن هناك قيامة!
وطائفة الفريسيين، وكانوا على شقاق مع الصدوقين.
ينكرون عليهم تشددهم في الطقوس والشكليات، وجحدهم للبعث والحساب.
والسمة الغالبة على الفريسيين هي الزهد والتصوف,
وإن كان في بعضهم اعتزاز وتعال بالعلم والمعرفة.
وكان المسيح ـ عليه السلام ـ ينكر عليهم هذه الخيلاء وشقشقة اللسان!
وطائفة السامريين، وكانوا خليطاً من اليهود والآشوريين، وتدين بالكتب الخمسة في العهد القديم المعروفة بالكتب الموسوية، وتنفي ما عداها مما أضيف إلى هذه الكتب في العهود المتأخرة، مما يعتقد غيرهم بقداسته.
وطائفة الآسين أو الأسينيين.
وكانوا متأثرين ببعض المذاهب الفلسفية، وكانوا يعيشون في عزلة عن بقية طوائف اليهود، ويأخذون أنفسهم بالشدة والتقشف، كما يأخذون جماعتهم بالشدة في التنظيم.
وهناك غير هذه الطوائف نحل شتى فردية، وبلبلة في الاعتقاد والتقاليد بين بني إسرائيل، الراضخين لضغط الإمبراطورية الرومانية المستذلين المكبوتين، الذين ينتظرون الخلاص على يد المخلص المنتظر من الجميع.
فلما أن جاء المسيح ـ عليه السلام ـ بالتوحيد الذي أعلنه: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [مريم 36].
وجاء معه بشريعة التسامح والتهذيب الروحي والعناية بالقلب البشري قبل الشكليات والطقوس: حاربة المحترفون الذين يقومون على مجرد الأشكال والطقوس.
ومما يؤثر عنه ـ عليه السلام ـ في هذا قوله عن هؤلاء: "إنهم يحزمون الأوقار، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم، ولا يمدون إليها إصبعاً يزحزحونها، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم! يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، ويبتغون التحيات في الأسواق، وأن يقال لهم: سيدي. سيدي. حيث يذهبون.
أو يخاطب هؤلاء فيقول: "أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل: إنكم تتقون ظاهر الكأس والصحفة, وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة.. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ إنكم كالقبور المبيضة, خارجها طلاء جميل, وداخلها عظام نخرة". "عن كتاب عبقرية المسيح للعقاد".
قوله تعالى: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الآية67]
قال ابن كثير(9): أي: كل صداقة وصحابة لغير الله: فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة, إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه،
وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت 25].
وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}
قال: خليلان مؤمنان، وخليلان كافران, فتوفي أحد المؤمنين, وبشر بالجنة فذكر خليلهفقال: اللهم إن فلاناً خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر، وينبئني أني ملاقيك، اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني, وترضى عنه كما رضيت عني،
فيقول له: اذهب، فلو تعلم ماله عندي لضحكت كثيراً وبكيت قليلا.
قال: ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال: ليُثْنِ أحدكما على صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ، ونعم الصاحب، ونعم الخليل.
وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول: اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك, ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك؛ اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت عليّ،
قال: فيموت الكافر الآخر, فيجمع بين أرواحهما.
فيقال: ليثنَ كل واحد منكما على صاحبه.
فيقول كل واحد منهما لصاحبه: بئس الأخ، وبئس الصاحب، وبئس الخليل.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة: صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين.
وروى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته في".
أقول: فليحاسب كل منا نفسه أن تكون له مودة وصداقة وصحبة لغير المتقين فضلاً عن أن يكون عنده لغيرهم ولاء وطاعة, ولنحرص على الإخلاء في الله فإنه من أعظم القربات إلى الله, ولنحذر أن نضيع إخاءً كسبناه؛ فذلك العجز الكبير،
إن عقد الإخاء في الإسلام أبدي: فلا تفرط فيه،
يقول الإمام على رضي الله عنه: "أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من كسب منهم".
7- في قوله تعالى { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الآية 72].
قال ابن كثير(9): روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كل أهل النار: يرى منزله من الجنة حسرة فيقول: { لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر 57]
وكل أهل الجنة يرى منزلة من النار فيقول: { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} [الأعراف 43]
فيكون له شكراً"
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار.. فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة, وذلك قوله تعالى { َتِلْكَم الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف 43].
8- في قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الآيات 78-80]
قال صاحب الظلال(8): وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه، لا عدم إدراك أنه الحق، ولا الشك في صدق الرسول الكريم؛ فما عهدوا عليه كذباً قط على الناس، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟
والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق، ولكنهم يكرهونه، لأنه يصادم أهواءهم، ويقف في طريق شهواتهم، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم؛ ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته!
فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات: يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاء!.
لهذا يهددهم صاحب القوة الجبروت، العليم بما يسرون وما يمكرون:
{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الآيتان 79, 80]
فإصرارهم على الباطل في وجه الحق: يقابله أمر الله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته.
وتدبيرهم ومكرهم في الظلام: يقابله علم الله بالسر والنجوى.
والعاقبة معروفة حين يقف الخلق الضعاف القاصرون، أمام الخالق العزيز العليم..!!!
ثانى عشر : مصادر المفاتيح و هوامش البحث
1- انظر: السخاوي / جمال القرآء 1/37
الفيروزابادي / بصائر 1/421
البقاعي/ نظم الدرر (تفسير الزخرف)
2- انظر: البقاعي / نفس المصدر
3- انظر: القاسمي/ محاسن التأويل (تفسير الزخرف)
4- انظر: موسى جار الله ترتيب السور الكريمة وتناسبها في النزول و ص113
5- انظر: مكي بن ابي طالب/ التبصرة ص323
السخاوي / جمال القرآء 1/216
الفيروزابادي / بصائر 1/421
الآلوسي / روح المعاني (تفسير الزخرف)
محمد غوث / نثر المرجان 6/392
6- انظر: سعيد حوي / الأساس (تفسير الزخرف)
7- انظر: المراغي/ تفسير المراغي (تفسير الزخرف)
8- انظر: الشهيد/ سيد قطب في ظلال القرآن (تفسير الزخرف)
9- انظر: ابن كثير / تفسير القرآن العظيم (تفسير الزخرف)
10- انظر: الآلوسي / روح المعاني (تفسير الزخرف)
فضيلة الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق