سُورَة الرَّعد
سُورَة الرَّعد |
|
الكاتب: الأستاذ الشيخ/ محمد الغزالي - رحمه الله . |
في الآية الأولى من سورة الرعد يخاطب الله نبيه قائلاً: "والذي أنزل إليك من ربك الحق" لكن هذا الحق يضل عنه كثيرون "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون" (1)!
هل هناك عذر للكثرة التي أعرضت عن الحق ورفضت الانقياد إليه؟ لا.
فلنفرض أن وحيا لم ينزل، أليس في إبداع هذا العالم ما يشهد لصاحبه بالألوهية والعظمة؟ إن النظر السديد في آفاق السموات والأرض شاهد صدق على أن جحد الألوهية غباء، وعلى أن الأصفار التي اعتبرت شركاء خرافة مزدراة...!
ونترك قليلاً الآيات التي وصفت الكون وكشفت آيات الله فيه، ونتابع التأمل في هذه الآية "والذي أنزل إليك من ربك الحق" فنرى صلة لها بآية أخرى من قلب السورة "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى" (19).
إن هؤلاء العالمين بحقائق الوحي هم الفضلاء الذين استقامت سيرتهم بعدما استنارت سريرتهم، وقد أحصت الآيات ـ بعد ذلك ـ صفاتهم بدءاً من قوله تعالى: "إنما يتذكر أولو الألباب. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل..." (19-20) الخ.
وقد تضمنت الآيات هنا عشر وصايا، من استجمعها كان أهلاً للجزاء الأوفى "أولئك لهم عقبى الدار. جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم" (22-24).
وأولى هذه الوصايا: العقل الناضج، وثانيتها: الوفاء بالعهد الأعظم المأخوذ على الفطرة البشرية أن تتجه إلى ربها.. ولا تشرك به شيئاً...
وتكرر الحديث عن الوحي النازل، وعن قيام الرسول بتبليغه في قوله تعالى بعد ذلك: "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن! قل هو ربِّي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب" (30).
وقد قاوم الأمِّيون من العرب هذه الرسالة مقاومة شديدة، وكان محور عنادهم طلب خارق من خوارق العادات يشهد بصدق الرسول.
وقد بينت آيات أخرى أنهم لو أجيبوا إلى مقترحاتهم ما آمنوا ولَحاق بهم الهلاك.
أما في هذه السورة قد صيغ الإنكار والرد في عدة صور:
(1) "ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه! إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" (7).
(2) "ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه! قل إن الله يضل من يشاء ويهدي من أناب" (27).
(3) ويمضون في كفرانهم ليصلوا إلى هذه النتيجة "ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً، قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب" (43).
والواقع أن فاقد البصر في الكون لا يُنتظر منه إيمان سليم، ومن لم يحسن النظر في نفسه وفي أجهزة جسمه وعقله لا يتوقع منه أن يعرف الله معرفة قيِّمة حتى لو مشى في قوافل المؤمنين مع جمهور المقلدين..!!.
وجاء في هذه السورة "... لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك" (30).
التلاوة المعْنيَّة هنا ليست قراءة مجردة، إنها تفصيل منهج، وخطة عمل، وإنذار مبين! وهي أساس ما ينبنى عليها من تزكية تقدمها برامج التربية المختلفة، وتلاوة القرآن صيانة لأحرفه مما أصاب كتبا سابقة، وتقديم التوجيه الإلهي المصفَّى إلى الأمة العربية لتنهض برسالتها، فإن وفَّتْ نجت، وإلا فالعقاب لها بالمرصاد: "ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد" (31).
والرأي السائد أن سورة الرعد مدنية نزلت بعد سورة محمد، والذي أميل إليه أنها مكية، وأسلوبها يرجح ما أرى، لاسيما والمشركون يلحّون فيها على طلب معجزة حسية مثل ما حكت سورة الأنعام ويونس والإسراء... الخ.
قلنا: إن الآية الأولى جاء فيها قوله تعالى: "والذي أنزل إليك من ربك الحق" وفي أواخر السورة نقرأ قوله تعالى: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل: إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب" (36).
في هذه الآية نبوءة تحققت. فإن الإسلام عندما قرع أبواب مصر والشام، سرعان ما هوت إليه القلوب، ودخل النصارى في دين الله أفواجا، واعتنقوه، وصاروا حَمَلَتَه وحُماته.
ومعروف أن بيت المال خَرِبَ لسقوط الجزية بعدما آمن الناس حتى اضطرّ الوالي في مصر إلى استبقائها على من أسلم! لولا أن عمر بن عبد العزيز كتب له: "ويحك، إن محمدا بعث هاديا ولم يبعث جابيا، ضع الجزية عمن أسلم" نعم ولو خرب بيت المال..!!
ونصارى مصر والشام وسائر الأمم الأخرى التي شرحت بالإسلام صدرا أضحت عربية بالتجنّس والدين، فالتعريب مورد مفتوح ينمو به الكيان العربي ويتجدَّد، وفيهم تقال الآية: "وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من وليٍّ ولا واق" (37).
وكلمة الحكم تعني السلطة السياسية، والحكمة القرآنية على سواء.
وقد انتشر الإسلام في أطراف الجزيرة قبل أن يدخله أهل مكة الذين بقوا على وثنيتهم إلى عهد متأخر، وهذا معنى قوله تعالى: "أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب" (41).
وفي إيقاظ الحسّ النائم نقرأ الآية الكريمة "وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأُكُل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" (4).
ألا يستدعي التأمل أن ترى في قطعة واحدة من الأرض شجرة عنب وشجرة ليمون وشجرة حنظل وشجرة شوك تُسْقَى جميعا بماء واحد، ويختلف الجنى والمذاق واللون والأثر؟.
ألا يستدعي التأمل أن ترى الدودة تأكل من ورقة التوت فتضع حريرا؟ وتأكل منه النحلة فتضع عسلا؟ وتأكل منه الشاة فتضع بعْرا؟؟.
إن الإرادة العليا نوّعت الأنواع، وصنّفت الأصناف في فجاج الأرض وآفاق السماء على نحو مثير، ومع ذلك يجئ امرؤ ملحد فيقول؛ لا إله!! فماذا إذاً؟ ويجئ آخر فيقول للرسول: لا أومن حتى تنسف هذا الجبل وتنشئ مكانه بستانا لي!! كأن رب الكون يستجيب لعبثه!.
ويتحدث القرآن عن عظمة الخالق في تناسل الأحياء من إنسان وحيوان وطير وزواحف، إنها ألوف مؤلفة في البر والبحر والجو، إنها "مليارات" تتلاقح وتتكاثر، وتمر أجنتها بمراحل مكتوبة محسوبة، فما تنخرم سُنَّة، ولا يضطرب نظام "الله يعلم ما تحمل كل أنثى" في الأجواء أو الغابات أو الجحور أو الأسرة، "وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" (8-9).
وتمضي سورة الرعد في شرح مظاهر القدرة، وسابغ الفضل على نحو لا مثيل له في كتاب مضى أو بقى، ثم ترسل هذه الأسئلة مشفوعة بأجوبتها الفريدة "قل: من ربّ السموات والأرض؟ قل الله! قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور؟ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار" (16).
إن هذه السورة بدأت بالحديث عن الكون ودلالاته على الله سبحانه، ثم أفاضت في موقف الإنسان من القرآن الذي شرح هذه الدلالات ونبه إليها.
من فجر الإنسانية إلى الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يدبر ربُّنا شئون هذه الأجساد، وما يعرض لها من بؤس ونعمى "وأن إلى ربك المنتهى. وأنه هو أضحك وأبكى. وأنه هو أمات وأحيى.." (42-44).
إن الكون كبير كما كشف العلم، ولكن الله أكبر كما يجب أن يشعر العلماء.
============
المصدر : التفسير الموضوعي |
 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق