إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

سبحان الله والحمد لله والله أكبر

الخميس، 24 نوفمبر 2011

مفاتيح سورة الحج

مفاتيح سورة الحج
أولاً:اسم السورة
هذه السورة تسمى بـ :
1- سورة الحج(1)
وذلك : للفت الأنظار ، وتوجيه العقول .. إلى منافع الحج ، المذكورة فى قوله تعالى {..ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير * ثم ليقضوا تفثم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج 28 ، 29] .
حيث اشتملت السورة – ومنها هاتان الآيتان – على أصل وجوبه ، والمقصود من أركانه .. وهو : الطواف ؛ إذ الإحرام نية ، والوقوف بعرفات من ... استعداده ، والسعى من تتمته ، والحلق خروج عنه .
وذكر فيها كذلك : منافعه ، وتعظيم شعائره ، وغير ذلك مما يشير إلى فوائده وأسراره(2) .
وأيضاً ..!!
ففى التسمية بهذا الاسم : تخليد لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام ، حين انتهى من بناء البيت العتيق ، ونادى لحج بيت الله الحرام ، فتواضعت الجبال ، حتى بلغ الصوت أرجاء الدنيا ، وأسمع الله نداءه من فى الأرحام والأصلاب ، وأجابوا النداء "لبيك اللهم لبيك" .



ثانياً : عدد آيات السورة و كلماتها و حروفها





ثالثاً : ترتيب السورة فى المصحف و فى النزول

أ‌- فى المصحف .. بعد : سورة "الأنبياء" ، وقبل : سورة "المؤمنون" .
ب‌- فى النزول .. بعد : سورة "النور" ، وقبل : سورة "المنافقون" .



رابعاً : سبب نزول السورة

ولكن هناك آثار طيبة فى نزولها 00
نسوق بعضها على الوجه الثانى .
أ‌- نزلت هذه السورة على النبى صلى الله عليه وسلم وهو فى السفر .
فقد روى الترمذى عن عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم لما نزلت {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم – إلى قوله – ولكن عذاب الله شديد} .
قال : أنزلت عليه هذه الآية وهو فى سفر ، فقال : 000 الخ .
ب- كما أنها نزلت ليلاً .
ففى تفسير الفخر الرازى : روى أن هاتين الآيتين نزلت بالليل والناس يسيرون ، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاجتمع الناس حوله ، فقرأهما عليهم ، فلم 0000000 أكثر من تلك الليلة ، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ، ولم يضربوا الخيام ، ولم يطبخوا القدور ، والناس بين باك وجالس حزين متفكر 00 الخ(5) .
ونقل الإمام القرطبى عن بعض العملاء : "أن هذه السورة من أعاجيب السور ، نزلت ليلاً ونهاراً ، سفراً وحصراً ، مكياً ومدنياً ، سلمياً وحربياً ، ناسخاً ومنسوخاً ، محكماً ومتشابهاً ، مختلف العدد(4) ، أى فيها : هذا وذاك .



خامساً : مكية السورة و مدنيتها

هذه السورة مدنية .
إلا قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ..} [الآية رقم 52] .
وإلا قوله تعالى {ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة ..} [الآية رقم 55] .
فهما نزلتا بين مكة والمدينة



سادساً : فضل السورة

يقول القرطبى : وجاء فى فضل هذه السورة ما رواه الترمذى وأبو داود والدارقطنى عن عقبة بن عامر قال : "قلت يا رسول الله ! فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين ؟ قال : نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" .
ويلفظ للترمذى ، وقال : حديث حسن ليس إسناده بالقوى(6) ثم قال : واختلف أهل العلم فى هذا .
فبعضهم قال : بأن فيها سجدتين .
وقال بعضهم : بل واحدة .
ومن فضلها 00 أنها .
واحدة من سورتين فى القرآن الكريم كله ابتدأنا بقوله تعالى {يا أيها الناس اتقوا ربكم} .
هى وسورة النساء فقط .
ومن هنا : فإن المتأمل للسورتين وما فيهما حسن معان وموضوعات يحد للتركيز الشديد والاهتمام الرقيق فى بناء التقوى لدى أفراد الجماعة المسلمة .
آمر آخر : أن سورة الحج تتكرر فيها {يا أيها الناس} أربع مرات(7) .
ويبدو أن كل ذلك للتهيج على التقوى وللفت الأنظار إلى أن الطريق إليها هو العبادة الصحيحة .



سابعاً : صلة السورة بما قبلها

والصلة بين سورة الحج وسورة الأنبياء التى قبلها واضحة وقوية ، ويظهر ذلك فيما يلى : -
1) تناسب أوائل السورتين :
فإذا كان تعالى أشار فى صدر الأنبياء إلى اقتراب يوم القيامة فى قوله تعالى {اقترب للناس حسابهم} والحساب يكون فى يوم القيامة . !
فإنه تعالى هنا : أمر بالتقوى ، وخوف من هول هذا اليوم فى قوله تعالى {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم 00} .
2) تناسب 0ول الحج مع خاتمة الأنبياء .
فإذا كان تعالى قد ختم الأنبياء بما يشير إلى يوم القيامة ويذكر به ويخوف منه فى قوله تعالى {واقترب الوعد الحق فإذا هى شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا فى غفلة من هذا بل كنا ظالمين} [الآية 97] وقوله تعالى {لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذى كنتم توعدون} [الآية 103] وقوله تعالى {يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب 00} [الآية 104] .
إذا كان ذلك فى خاتمة الأنبياء 00!!
فإنه تعالى بدأ الحج بالحديث الصريح عن يوم القيامة وما ينبغى له .
3) تناسب ختام السورتين
فإذا كان تعالى قد أمر بالإسلام وحث على الدخول فى ساحته فى آخر سورة الأنبياء ، بقوله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين * قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون} [الآيتان 107 ، 108] أى أسلموا وادخلوا فى رحاب هذا الدين .
فإنه تعالى بين فى خاتمة الحج إنه شرف هذه الأمة بالإسلام وبتسميتها به وعليها أن تعمل ولمرتبة هذا التشريف وأن تلتزم بواجباته فى قوله تعالى {هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الآية 78] .
4)إنه قد أقيمت فى السورة السالفة الحجج الطبيعية على الوحدانية – وفى هذه جعل العلم الطبيعى من براهين البعث .
5) فى السورة السالفة وما قبلها قصص الأنبياء وبراهينهم لقومهم . وفى هذه السورة خطاب من الله للأمم الحاضرة ، وهو خطاب يسترعى السمع ويوجب عليه ولو إجمالاً أن نعرف صنع الله فى أرضه وسمائه وتدبيره خلق الأجنّة والنبات والحيوان .



ثامناً : هدف السورة

تهدف السورة مباشرة إلى أمر واحد أساس ، والله أعلم بمراده .
وتوضح الطرق والوسائل المعينة عليه والمؤدية إليه .
وتدل على متعرجات الطريق ومزالقه المانعة من الوصول إليه ، وعلى الصوارف الشاغلة عنه .
وهذا هو الهدف الأساسى : هو تهيج النفوس وتحريك المشاعر لتقوى الله(7) .
وهى تبدأ بطلبه والإعلان عنه فى أولى آياتها {يا أيها الناس اتقوا ربكم} .
ثم تأخذ فى توضيح وعرض الوسائل المعينة على تحريك النفوس له وتهيج المشاعر به .
ومن ذلك :
1) التخويف من هول يوم القيامة {إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج 1 ، 2] .
2) إنذار العصارة وتبشير الطائعين {هذان خصمان اختصموا فى ربهم
فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم * يصهر بهم ما فى بطونهم والجلود * ولهم مقانع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق *
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} [الحج 19-24] .
3) تعظيم حرمات الله وشعائره
{ومن يعظم حرمات الله فهو وخير له عند ربه} [الحج 30] .
{ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج 32]
4) عبادة الله والمحافظة على أدائها كاملة والاستقامة على ذلك مع فعل الخيرات ، والاعتصام قبل الله .
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا فى الله حق جهاده 00} [الحج 78] .
وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم 00} [الحج 78] .
ويلاحظ أن السورة ابتدأت بالأمر بالتقوى واختتمت بالأمر بالعبادة إذ هى الطريق العملى لتحقيق التقوى ، وكانت آخر ما يقرؤه الإنسان فى السورة ولا يفوت السورة أن تنبه على المزالق التى تعترض السالكين والصوارف التى تشغلهم .
ومن ذلك :
1) الجهل بالله والجدال فيه واتباع الشياطين .
{ومن الناس من يجادل فى اللله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} [الحج 3].
{ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} [الحج 8] .
2) عبادة الله على حرف أى للمصلحة .
{ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج 11] .
3) عدم الثقة بالله 0000 من نصره أو استبطائه .
{ومن كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والآخرة فلميدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الآية 15] .
{الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الآية 41] .



تاسعاً : تقسيم آيات السورة موضوعيا

يمكن تقسيم آيات هذه السورة إلى : أربع مجموعات(7) .
المجموعة الأولى : عبارة عن (4) آيات .
من الآية الأولى ، حتى نهاية الآية (4) .
وفيها :
الأمر بالتقوى ، والتعليل لضرورتها ، بزلزلة الساعة ، وشدة أهوالها .
وبيان ما يصرف الناس عن هذه التقوى ، وهو الجهل بالله ، واتباع الشياطين .
المجموعة الثانية : عبارة عن (44) آية .
من الآية (5) حتى نهاية الآية (48) .
وفيها :
علاج : قضية الشك فى اليوم الآخر ، الذى هو وأثر من آثار الجهل بالله تعالى ، كما أنه العقبة الأولى فى طريق العبادة والتقوى .
عرض : لصنف من الناس ، جاهل بالله تعالى ، والجهل بالله تعالى : من أعظم الصوارف عن التقوى لأهله وللناس .
ثم عرض : لصنف – آخر – من الناس يعبد الله على حرف وعلاج شأن هؤلاء ؛ إذ حالهم من أعظم القواطع عن الاستمرار فى الطريق الموصلة إلى التقوى .
ثم : عرض لموضوع اليأس من النصر 00 وهو موضوع خطير ، ينقطع الكثير بسببه عن السير إلى الله تعالى .
ولذلك عالجته الآيات معالجة طويلة ، بيان أن الله تعالى ينصر أهل الإيمان والتقوى ثلاثة أنواع من النصر : نصر فى الآخرة ، ونصر فى الدنيا إذا قاتلوا ، ونصر فى الدنيا بإهلاك أعدائهم .
ولما كان علم الله محيطاً 00 وقد علم – جل جلاله – أن موضوع القتال فى الإسلام ، ستكثر عليه الحملات : فقد عرض النصر الذى هو أثر عن القتال ، بعد أن بين مبررات القتال ، من خلال الواقع العملى لكفار قريش ، زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومواقفها ، ومن خلال عرض قصة البيت الحرام ، وظلم قريش فيه ، وانحرافها ، واعوجاجها عن منهج إبراهيم عليه السلام .
وبالجملة : فقد عالج الله تعالى – فى هذه المجموعة من الآيات – الصوارف عن العبادة وعن التقوى .
المجموعة الثالثة : عبارة عن (24) آية .
من الآية (49) حتى نهاية الآية (72) .
وفيها :
إنذار وتبشير .
وبيان لسنة من سنن الله تعالى ، وهى: وجود الرغبة الشديدة ، والأمانى الضخمة ، عند كل نبى ورسول ، فى هداية أمته ، والارتقاء بها إلى الله ، ولكن الشيطان يلقى فى كل فرد من أفراد الأمة إلقاءه .
ولكن – من سنة الله أيضاً – أن إلقاء الشيطان هذا : يؤثر فى مرضى القلوب ، وفى أصحاب القلوب القاسية ، ولا يؤثر أبداً ، ولا يترتب عليه شئ ضار فى صدور الذين أوتوا العلم ، بل يتأكد – عندهم – بذلك أن وحى الله حق ، فيردادون إيماناً وخشوعاً ؛ تحقيقاً لوعد الله تعالى ، أن يهدى أهل الإيمان .
وكذلك : إشارة إلى أن حق المهاجرين ، الذين ظلموا ، فى الدفاع عن أنفسهم ، ورد العدوان عنهم ، والانتقام ممن ظلمهم 00 قائم ، وأن الله ناصرهم ، وأن ذلك لا يتنافى مع التقوى المأمور بها .
وفى نهاية المجموعة : تعريف على الله سبحانه وتعالى ، بآلائه وأسمائه 00 بما يعلل الإنذار ، ويحذر من المخالفة ، ويستخرج العبادة والتقوى ، ويبشر المتقين ، ويستجيش الشكر فى النفوس والقلوب .
ويلاحظ : أن فى هذا كله – كذلك – تحذير للمسلمين العابدين أن يكون موقفهم ممن يذكرهم يشبه مثل هذا الموقف .
كما أن فيه : تربية للداعية ، وتوجيه له ، وتعليم .
المجموع1 الرابعة : عبارة عن (6) آيات .
من الآية (73) حتى نهاية الآية (78) .
وفيها :
هدم عبادة غير الله تعالى ، الناشئة عن الجهل به سبحانه ، وعدم تقديره قدره عز وجل ، وعدم المعرفة بإحاطة علمه كل شئ ، وعدم الإيمان باليوم الآخر .
ثم الأمر : بعبادة الله تعالى ، والتوجه بها إليه سبحانه دون ما سواه ، وتفضيل – نوع ما – لهذه العبادة 00 من : ركوع ، وسجود ، وفعل للخير ، وجهاد فى سبيله ، وريادة للدنيا ، وإقامة للصلاة ، وإيتاء للزكاة ، واعتصام بحبل الله .
ويلاحظ : أن هذه الصنوف من العبادة ..توصل إلى التقوى .
كما يلاحظ جيداً هنا : أن سورة "الحج" ابتدأت بالأمر بالتقوى ، واختتمت بالأمر بالعبادة .
والعبادة : هى الطريق العملى لتحقيق التقوى .



عاشراً : أبرز موضوعات السورة

ولأن السورة – كما سبق أن ذكرنا – مكية مدنية ، أى فيها ما نزل بمكة ، وما نزل بالمدينة .
فإن موضوعاتها : تحتوى من المكى بعضه ومن المدنى بعض الآخر .
ومع ذلك :
فالذى يغلب على السورة – كما يقول سيد قطب – هو موضوعات السورة المكية ، وجو السور المكية .
فموضوعات التوحيد ، والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك ، ومشاهد القيامة ، وآيات الله المثبوتة فى صفات الكون بارزة فى السورة.
وإلى جوار ذلك :
الموضوعات المدنية : من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغى وهو يرد العدوان , والأمر بالجهاد فى سبيل الله .
ومع كل ذلك :
فالظلال الواضحة فى جو السورة كلها : هى ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة والتخدير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام(8) .
ويقول الشيخ المراغى(9) :
وهى بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة :
(1) البعث والدليل عليه وما يتبع ذلك .
(2) الحج والمسجد الحرام .
(3) أمور عامة كالقتال وهلاك الظالمين والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق .
وضرب المثل بعجز الأصنام وعدم استطاعتها خلق الذباب.
ثم يقول رحمه الله (9)


خلاصة ما تضمنته السورة من الحكم والأحكام

(1) وصف حال يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال تشيب منها الوالدان .
(2) جدال عبدة الأصنام والأوثان بلا حجة ولا برهان .
(3) إثبات البعث وإقامة الأدلة عليه .
(4) وصف المنافقين المذبذبين فى دينهم وعدم ثباتهم على حال واحدة .
(5) ما أعد الله لعباده المؤمنين من الثواب المقيم فى جنات النعيم .
(6) بيان أن الله ناصر نبيه ومظهر دينه على سائر الأديان .
(7) بيان أن الله يحكم يوم القيامة بين عباده من أرباب الديانات المختلفة ويجازى كلاً بما يستحق .
(8) إقامة الأدلة على وجود خالق السموات والأرض وبيان أن العالم كله خاضع لقدرته .
(9) أمر المؤمنين بقتال المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم ، وبيان أن هذا القتال لابد منه لنصرة الحق فى كل زمان ومكان وأن الله ينصر من يدافع عنه .
(10) تسلية الرسول على ما يناله من أذى قومه وأنهم ليسوا بدعاً فى الأمم ، فكثير ممن قبلهم كذبوا رسلهم ثم كانت العاقبة للمتقين ، وأهلك الله القوم الظالمين ، والعبرة ماثلة أمامهم فى حلهم وترحالهم.
(11) بيان أن المفسدين يلقون الشبهات على الخلق ليزلزلوا عقائد المؤمنين ، لكنها لا تلبث أن تزول وينكشف نور الحق ويزيل ظلام الباطل .
(12) الثواب على الهجرة لله ورسوله سواء قتل المهاجر أو مات .
(13) وصف حال الكافرين إذا تلى عليهم القرآن ، بما يظهر على وجوههم من أمارات الغضب .
(14) بيان أن الله يرسل رسلاً من الملائكة ورسلاً من البشر وأن الله عليم بمن يصلح لهذه الرسالة .
(15) أمر المؤمنين بدوام الصلاة والزكاة وفعل الخيرات والجهاد حق الجهاد فى سبيل الحق .
(16) بيان أن الدين يسر لا عسر ، وأنه كملّة إبراهيم سمح لا شدة فيه .
(17) بيان أن الرسول شهيد على أمته يوم القيامة وأن هذه الأمة تشهد على الأمم السالفة بأن رسلهم قد بلغوهم شرائع الله وما قصّروا فى ذلك .



حادى عشر : بعض الدروس المستفادة

كل السورة آياتها وكلماتها وحروفها وحركاتها فوائد .
ولا نستطيع إحصاء ذلك .
ولهذا سوف نكتفى ببعض ذلك على النحو التالى :
1) فى قوله تعالى {فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم} [الآية 5] ؟
فى الصحيحين عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن خلق أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه ، وعمله ، وأجله ، وشقى أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح)(1) .
2) فى قوله تعالى {ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} [الآية 9] .
أخرج ابن أبى حاتم بسنده إلى الحسن البصرى قال : "بلغنى أن أحدهم يحرق فى اليوم سبعين ألف مرة .
3) فى قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الآيتان 28 ، 29] .
جمع الله حكم فريضة الحج على الناس فى هذه الأمور الخمس

{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبىّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمـنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله ، آياته ، والله عليم حكيم} [الآية 52].

{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى {أى رغب فى انتشار دعوته ، وسرعة علوّ شرعته {ألقى الشيطان فى أمنيته} أى بما يصدّ عنها ، ويصرف المدعوين عن إجابتها {فينسخ الله ما يلقى الشيطان} أى يبطله ويمحقه {ثم يحكم الله ، آياته} أى يثبتها {فأما الزبد فيذهب جفاء * وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض} [الرعد 17] {والله عليم} يعلم الإلقاءات الشيطانية ، وطريق نسخها من وجه وجيه . {حكيم} يحكم آياته بحكمته . ثم أشار إلى أن مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانىّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق ، ابتلاءً لهم ليزدادوا إثماً . ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتاً واستقامة . فقال تعالى :
{ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، وإن الظالمين لفى شقاق بعيد} [الآية 53] .
{ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض} أى شك وارتياب {والقاسية قلوبهم} وهم العتاة المتمردون {إن الظالمين لفى شقاق} أى خلاف للحق {بعيد} عن موافقته جداً ، بسبب ظلمهم وشركهم .
{وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} [الآية 54] .
{وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} أى بالانقياد والخشية . والضمير للقرآن أو لله تعالى {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم" أى طريق الحق والاستقامة ، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقى .... ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقى الرحكم ، لصفائها. هذا هو الصواب فى تفسير الآية . ولها تظهر المراد منها كما أشرنا إليه ، لو احتاجت إلى نظير . ولكنها بيّنة بنفسها، ... التطويل فى التأويل ، لولا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك ، ثم نتبعه بنقد المحققين ، لئلا يبقى فى نفس .....
قال ابن جرير الطبرى(11) : قيل إن السبب الذى جاء من أجله نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن الشيطان كان ألقى على لسانه ، فى بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزل الله عليه . فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتم به ، فسلاّه الله مما به من ذلك الآيات . ثم ذكر من قال ذلك . فأسند عن محمد بن كعب القرظىّ ومحمد بن قيس ....أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس فى ناد من أندية قريش ، كثير أهله ، فتمنى يؤمئذ ألا يأتيه الله شئ فينفروا عنه . فأنزل الله عليه {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم 1 ، 2] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ {أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} [النجم 19 ، 2.} ألقى عليه الشيطان كلمتين "تلك الغوانيق العلى * وإن شفاعتهن لترتجى" .... بها ، ثم مضى فقرأ السورة كلها . فسجد فى آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، .... بما تكلم به .
قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة . فلما بلغ .... المذكورتين قال : ما جئتك بهاتين . فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تبارك وتعالى يعزيه {وما أرسلنا من قبلك} الآية .
وقال القاضى عياض فى "الشفا" : أعلم أن لنا فى الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما فى توهين أصله ، والثانى على تسليمه .
أما المأخذ الأول ، فيكفيك أن هذا لم يخرجه أحد من أهمل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل . وإنما أولع به ويمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غرب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم . وصدق القاضى بكر بن العلاء المالكىّ حيث قال : لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والتفاسير . وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف بعض نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته . ومن حكيت عنه هذه الحكاية من المفسرين والتابعين ، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب . وأكثر الطرق عنهم فيها ، واهية ضعيفة، والمرفوع عنه حديث شعبة عن أبى بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب "الشك فى الحديث" أن النبىّ صلى الله عليه وسلم كان بمكة ، وذكر القصة .
قال أبو بكر البزّار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل ، يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد. وغيره يرسله عن سعيد بن جبير . وإنما يعرف عن الكلبىّ ، عن أبى صالح ، عن ابن عباس . فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا . وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيما ذكرناه ، الذى لا يوثق به ولا حقيقة معه . وأما حديث الكلبىّ فما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره . لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه البزار رحمه الله : والذى منه فى الصحيح ؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ سورة {والنجم} وهو بمكة . فسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن .
هذا توهينه من طريق القتل .
وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته عليه السلام ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة . إما من تمنيه أن ينزلّ عليه مثل هذا من مدح غير الله وهو كفر ، أو أن يتسوّر عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، حتى ينبهه عليه جبريل عليهما السلام ، وذلك كله ممتنع فى حقه عليه السلام . أو يقول ذلك النبى صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمداً،
وذلك كفر . أو سهواً وهو معصوم من هذا كطله . ووجه ثان – وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً . وذلك أن الكلام ، لو وكان كما رُوىَ بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف . ولمّا كان النبى صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ، ممن يخفى عليه ذلك ، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل . فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه ؟ ووجه ثالث – أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندى المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين ، نفورهم من أول وهلة، وتخليط العدوّ على النبى صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة وتعبيرهم المسلمين والشمَّات بهم .... بعد .... وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة . ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة . ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة . كما فعلوه مكابرة فى قصة الإٍسراء حتى كانت فى ذلك لبعض الضعفاء ردّة . وكذلك ما روى فى قصة القضية . ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو و وجدت . ولا تشغيب للمعادى حيئنذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت . فما روى من معاند فيها كلمة . ولا عن مسلم بسببها بنت شفة . فدل على طلبها ، واجتثات أصلها . ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس والجن ، على بعض مغفلى المحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .
ووجه رابع – ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك} [الآيتين 73 ، 74] ، وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذى روروه . لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفترى ، وأنه لولا أن ثبّته لكاد يركن إليهم . فمضمون هذا ومفهومه ، أن الله تعالى عصمه من أن يفترى ، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً ، فكيف كثيراً ؟ وهم يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء يمدح آلهتهم . وهذا ضد مفهوم الآية ، ويضعف الحديث ، لو صح ، فكيف ولا صحة له ؟ وأما المأخذ الثانى فهو مبنىّ على تسليم الحديث ، لو صح وقد أعاذنا الله من صحته . ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها ... والمسين . فمنها ما وراه قتادة ومقاتل أن النبى صلى الله عليه وسلم أصابته سِنة عند قراءة هذه السورة . فجرى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم . وهذا لا يصح . إذ لا يجوز على النبى صلى الله عليه وسلم مثله فى حاله من أحواله . ولا يخلقه الله على لسانه ولا يستولى الشيطان عليه فى نوم ولا يقظة ، لعصمته فى هذا الباب من جميع العمد والسهو . وقد قال عليه السلام (إن عينىّ تنامان ولا ينام قلبى)(12) . وفى حديث الكلبىّ أن النبى صلى الله عليه وسلم حدثت نفسه ، فقال ذلك الشيطان على لسانه . وفى رواية ابن شهاب عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال : ومنها لما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان . وكل هذا لا يصح أن يقوله عليه السلام لا سهواً ولا قصداص . ولا يتقولّه الشيطان على لسانه . وقيل : لعلّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قاله أثناء تلاوته ، على تقدير التقرير والتوضيح للكفار . كقول إبراهيم {هذا ربى} [الأنعام 77] على أحد التأويلات . وكقوله {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء 63] بعد السكت وبيان الفصل بين الكلامين . ثم رجع إلى تلاوته . وهذا يمكن مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد ، وأنه ليس من المتلوّ . وهو أحد ما ذكره القاضى أبو بكر .
ومما يظهر فى تأويله ، إن سلمنا القصة ، أن يراد بالغرانييق الملائكة . ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح . فلما تأولّه المشركون على أن المراد بها آلهتهم ، ولبّس عليهم الشيطان ذلك وزينه فى قلوبهم ، وألقاه بهم ، نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين . انتهى كلام القاضى ملخصاً.
وقال أبو بكر الباقلانىّ : وقيل : كان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ، فارتصده الشيطان فى سكتة من السكتات . ونطق بتلك الكلمات ، محاكياً نغمته ، بحيث سمعه من دنا إليه ، فظنها من قوله تعالى وأشاعها .
قال : وهذا أحسن الوجوه . ويؤيده ما روى عن ابن عباس من تفسير (تمنى) بـ (تلا) وكذا استحسن ابن العربىّ هذا التأويل . وقال قبله : إن هذه اآية نص فى براءة النبىّ صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه ، وأن الشيطان زاده فى قوله صلوات الله عليه ، لا أنه عليه السلام قاله .
قال : وقد سبق إلى ذلك الطبرىّ فصوب هذا المعنى وحوّم عليه واستحسان ابن العربىّ ذلك ، على فرض صحة القصة ، وإلا فقد قال : ذكر الطبرىّ فى ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها . وقال تقى الدين بن تيمية : فى الآية قولان والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة فى سورة النجم بقوله (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) وقالوا : إن هذا لم يثبت . ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان فى مسامعهم ، ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضاً .
وقالوا فى قوله {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته} : هو حديث النفس وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف ، فقالوا : هذا منقول نقلاً ثابتاً لا يمكن القدح فيه وقالوا : الآثار فى تفسير هذه الآية معروفة ثابتة فى كتب التفسير والحديث . والقرآن يوافق ذلك . فإن نسخ الله لما يلقى الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما وقع من آياته ، وتمييز الحق عن الباطل حتى لا تختلط آياته بغيرها . وجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، إنما يكون ذلك ظاهراً يسمعه الناس ، لا باطناً فى النفس . والفتنة التى تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس الفتنة التى تحصل بالنوع الآخر من النسخ . وهذا النوع أدلّ على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعده عن الهوى ، من ذلك النوع . فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله ، وهو مصدق فى ذلك، فإذا قال فى نفسه أن الثانى هو الذى من عند الله وهو الناسخ ، وإن ذلك المرفوع الذى نسخه الله ليس كذلك ، كان أدل على اعتماده للصدق وقول الحق . وهذا كما قالت عائشة رضى الله عنها(13) : لو كان محمد كاتماً شيئاً من الوحى لكتم هذه الآية {وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب 37] ألا ترى أن الذى يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ . فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان ، هو أدل على تجربة للصدق وبراءته من الكذب . وهذا هو المقصود بالرسالة . فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليماً . انتهى .
وفى كلامه رحمه الله نظر من وجوه :
أولاً – دعواه أن المأثور يوافق القرآن . فإنه ذهاب إلى أن الإتقاء إلقاء فى الآيات . ولا تدل الآية عليه ، لا مطابقة ولا التزاماً . بل القول بذلك ينافى التنزيل والوحى منافاة النار للماء ، كما ستراه .
وثانياً – دعواه أن تلك الرواية نقلها ثابت لا يمكن القدح فيه . فقد قدح فيها من لا يحصى من المتقدمين والمتأخرين . ويكفى أن تلميذه الحافظ ابن كثير قال : قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق . وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظناً منهم أن مشركى قريش أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة . ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وتعدد طرفها ، بعد ضعف أصلها لا يفيد . وهذه شبهة يعتمدها كثير من الواقفين مع الروايات . يظنون أن الضعيف بكثيرة طرقه يقوى . والحال أن الضعيف ضعيف كيفما جاء . وقد سرت هذه الشبهة للحافظ ابن حجر . فأخذ يقوى بعض طرقها ويصححها من جهة الإسناد . كما ستمر بك مناقشته . ولو كان لها أدنى رائحة من الصحة لأخرجها البخارىّ معلقة أو موقوفة ، أو أرباب السنن .
وثالثاً – اعترافه بأن السؤال وارد على تقدير ثبوتها ، وإلقاء الشيطان ذلك فى مسامعهم ، مما يبرهن أن فيها مغامز تنبذها العقول ، كما نبذتها صحة النقول.
فصل
وقال الفخر الرازىّ فى "تفسيره" : هذه الرواية باطلة موضوعة ، عند أهل التحقيق . واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه : "أحدهما" قوله تعالى {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين} [الحاقة 44-46] .
و"ثانيهما" قوله {قل ما يكون أن أبدله من تلقاء نفسى ، إن أتبع إلا ما يُوحى إلى} [يونس 15] .
وثالثهما – قوله {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى} [النجم 3، 4] .
ورابعهما – قوله تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا إليك لتفترى علينا غيره ، وإذاً لاتخذوك خليلاً} [الإسراء 73] أو كلمة "كاد" عند بعضهم معناها أنه لم يحصل .
وخامسهما – قوله {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً} [الإسراء 74] وكلمة "لولا" تفيد انتفاء الشئ لانتفاء غيره . فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل .
وسادسهما – قوله {كذلك لتثبت به فؤادك} [الفرقان 32] .
وسابعهما – قوله {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى 6] .
وأما السنة فهى ما روى عن محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادنة . وصنف فيه كتاباً .
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقىّ : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل . ثم أحد يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وأيضاً فقد روى البخارى فى صحيحه(3) أن النبىّ عليه السلام قرأ سورة "والنجم" وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن . وليس فيه حديث الغرانيق . وروى هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق .
وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها – أن من جوّز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان ، فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان فى نفى الأوثان .
وثانيهما – أنه عليه السلام ما كان يمكنه فى أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكلمة آمناً أذى المشركين له . حتى كانوا ربما مدّوا أيديهم إليه . وإنما كان يصلى . إذا لم يحضروا ، ليلاً ، أو فى أوقات خلوة . وذلك يبطل قولهم.
وثالثهما – أن معادلتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة ، دون أن يقفوا على حقيقة الأمر . فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى أنهم سجدوا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم .
ورابعهما – قوله {فينسخ الله ما يُلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول ، أقوى من نسخه بهذه الآيات التى تبقى الشبهة معها . فإذا أراد الله إحكام الآيات ، لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً ، أولى .
وخامسهما – وهو أقوى الوجوه ، أنا لو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه . وجوّزنا فى كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فإنه لا فرق فى العقل بين النقصان عن الوحى ، وبين الزيادة فيه . فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال ، أن هذه القصة موضوعة .
أكثر ما فى الباب أن جمعاً من المفسرين ذكرها . لكنهم ما بلغوا حد التواتر . وخير الواحد لا يعارض الدلائل النقلة والعقلية المتواترة .
ثم أطال الرازىّ فى تفصيل المباحث : ونقل عن أبى مسلم الأصفهانىّ ما توسع به البحث فانظره إن شئت .
وكتب الأستاذ الإمام مفتى مصر ، الشيخ محمد عبده رحمه الله ، فى هذه الآية مقالة بديعة ، نقتبس منها شذارت .
قال : يعلم كل ناظر فى كتابنا الإلهى "القرآن" ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين ، والمنزلة التى أحلهم من حيث هم حملة الوحى وقدوة البشر ، فى الفضائل وصالح الأعمال . وتنزيهه إياهم عما زماهم به أعداؤهم وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم . ولا يخفى على أحد من أهل النظر ، فى هذا الدين القويم، أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل فى التبليغ ، والزيغ من الوجهة التى وجه الله بوجوههم نحوها من قول أو عمل . وخص خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فصلت فى ثنايات الكتاب العزيز . وعصمة الرسل فى التبليغ عن الله ، أصل من أصول الإسلام . شهد به الكتاب وأيدته السنة ، وأجمعت عليه الأمة . وما خلف فيه بعض الفرق ، فإنما هو فى غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه . ذلك الأصل الذى اعتمدت عليه الأديان ، حتى لا يرتاب فيه ملى يفهم ما معنى الدين . ومع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعواناً يعملون على هدمه وتوهين ركنه . أولئك عشاق الرواة وعبدة النقل . نظروا نظرة فى قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبىّ} الآية . وفيما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما من أن "تمنى" بمعنى "قرأ" و"الأمنية القراءة" فعمى عليهم وجه التأويل ، على فرض صحة الرواية عن ابن عباس . فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل فى زعمهم . ففيض لهم من يروى فى ذلك أحاديث تختلف طرفها وتتباين ألفاظها وتتفق فى أن النبى صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ ، وأعرضوا عنه ، وجفاء قومه وعشيرته ، لعيبه أصنامهم وزرايته على آلهتهم ، أخذه الضجر من إعراضهم . ولحرصه على إسلامهم تمنى ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقاً إلى استمالتهم . فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة "النجم" إلى آخر ما رواه ابن جرير أولاً . وقد شايعه عليه كثير من المفسرين ، وفى طباع الناس إلف الغريب ، والتهافت على العجيب. فقولوا بهذه التفاسير ، ونسوا ما رآه جمهور المحققين فى تأويلها . وذهب إليه الأئمة فى بيانها .
جاء فى صحيح البخارى(15) : وقال ابن عباس فى {إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته} إذا حدث ألقى الشيطان فى حديثه فيبطل الله ما يلقى الشيطان ويحكم الله آياته . ويقال "أمنيته قراءته" "إلا أمانىّ" يقرؤن ولا يكتبون . انتهى .
فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ "يقال" بعد ما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس . وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين . فما يدعيه الشراح أن الحديث فى رأى ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة . ثم حكاية تفسير الآمنية بمعنى القراءة بلفظ "يقال" يفيد أنه غير معتبر عنده . وسيأتى أن المراد بالحديث حديث النفس .
وقال صاحب الإبرير : إن تفسير "تمنى" بمعنى "قرأ" و"الأمنية" بمعنى "القراءة" مروىّ عن ابن عباس فى نسخة علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس . ورواها علىّ بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس . وقد علم ما للناس فى ابن أبى طالح كاتب الليث ، وأن المحققين على تضعيفه . انتهى.
هذا ما فى الرواية عن ابن عباس وهى أصل هذه الفتنة . وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها . وأما قصة الغرانيق ، فمع ما فيها من الاختلاف ، فقد طعن فيها غير واحد من الأئمة ، حتى قال ابن إسحق : إنها من وضع الزنادقة . كما تقدم عن الرازىّ . ونحوه عن القاض عياض رحمه الله ، من وهنها وسقوطها من عدة أوجه .
وأما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من طرق على شرط الصحيح ، وأنه يحتج بها من يرى الاحتجاج بالمرسل ، فقد ذهب عليه كما قال فى الإبريز ، أن العصمة من العقائد التى يطالب فيها اليقين . فالحديث الذى يريد خرمها ونقضها ، لا يقبل على أى وجه جاء . وقد عدّ الأصوليون الخبر الذى يكون على تلك الصفة ، من الأخبار التى يجب القطع يكذبها . هذا لو فرض اتصال الحديث ، فما ظنك بالمراسيل ؟ وإنما الخلاف فى الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به ، فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام ، لا فى أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالمرسل وما جاءوا به . فهى هفوة من ابن حجر يغفرها الله له .
هنا ما قاله الأئمة ، جزاهم الله خيراً ، فى بيان فساد هذه القصة ، وأنها لا أصل لها ، ولا عبرة يرأى من خالفهم . فلا يعتقد بذكرها فى بعض كتب التفسير. وإن بلغ أربابها من الشهرة ما بلغوا . وشهرة البطل فى بطله ، لا تنفخ القوة فى قوله . ولا تحمل على الأخذ برأيه .
ثم قال الأستاذ رحمه الله : والآن أرجع إلى تفسير الآيات على الوجه الذى تحتملها ألفاظها وتدل عليه عباراتها . والله أعلم :
لا يخفى على كل من يفهم اللغة العربية ، وقرأ شيئاً من القرآن ؛ أن قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبىّ} الآيات ، يحكى قدراً قدر للمرسلين كافة ، لا يعدونه ولا يقفون دونه . ويصف شنشنة عرفت فيهم ، وفى أممهم . فلو سمح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى : أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط فى الوحى المنزل إليهم . ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته الخ ، وهذا من أقبح ما يتصور متصور فى اختصاص الله تعالى لأنبيائه ، واختيارهم من خاصة أوليائه ! فلندع هذا الهذيان ، ولنعد إلى ما نحن بصدده .
ذكر الله لنبيه حالاً من أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ، ليبين له سنته فيهم . وذلك بعد أن قال {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود} [الحج 42] إلى آخر الآيات ثم قال {قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين * والذين سعوا فى آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الحجيم * وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى} [الحج 49-52] الخ ، فالقصص السابق كان فى تكذيب الأمم لأنبيائهم . ثم تبعه الأمر الإلهىّ بأن يقول النبى صلى الله عليه وسلم لقومه : إننى لم أرسل إليكم إلا لأنذركم بعاقبة ما أنتم عليه ، ولأبشر المؤمنين بالنعيم . وأما الذين يسعون فى الآيات والأدلة التى أقيمها على الهدى وطرق السعادة ، ليحوّلوا عنها الأنظار ويحجبوها عن الأبصار ، ويفسدوا أثرها الذى أقيمت لأجله ، ويعاجزوا بذلك النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أى يسابقوهم ليعجزوهم ويسكتوهم عن القول بذلك . وذلك بلعبهم بالألفاظ وتحويلها عن مقصد قائلها ، كما يقع عادة من أهل الجدل والمماحكة – هؤلاء الضالون المضلون هم أصحاب الجحيم . وأعقب ذلك بما يفيد أن ما ابتلىّ به النبى صلى الله عليه وسلم من المعاجزة فى الآيات ، قد ابتلى به الأنبياء السابقون . فلم يبعث نبى فى أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف ، ويضادّون أمانيه ، ويحولون بينه وبين ما يبتغى ، بما يلقون فى سبيله من العثرات . فعلى هذا المعنى الذى يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعاً ، يجب أن تفسير الآية . وذلك يكون على وجهين .
الأول – أن يكون "تمنّى" بمعنى "قرأ" و"الأمنية" بمعنى "القراءة" وهو معنى قد يصح . وقد ورد استعمال اللفظ فيه ؛ قال حسان بن ثابت فى عثمان رضى الله عنهما :
تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر :
تمنى كتاب الله أول ليلة تمنى داود الزبور على رسل
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذى ذكروه ، بل على المعنى المفهوم من قولك "ألقيت فى حديث فلان" إذا أدخلت فيه ربما يحتمله لفظه ، ولا يكون قد أراده . أو نسبت إليه ما لم يقله تعللاً بأن ذلك الحديث يؤدى إليه . وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق ، يتبعون الشبهة ، ويسعون وراء المربية ، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ، ونسبة الإلقاء إلى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه ، مفسد القلوب بدسائسه ، وكل ما يصدر من أهل الضلال يصح أن ينسب إليه . ويكون المعنى : وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبىّ إلا إذا حدّث قومه عن ربه ، أو تلا وحياً أنزل إليه فى هدى لهم ، قام فى وجهه مشاغبون ، يحوّلون ما يتلوه عليهم عن المراد منه . ويتقوّلون عليه ما لم يقله ، وينشرون ذلك بين الناس ، ليبعدوهم عنه ، ويعدلوا بهم عن سبيله ، ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل . وما زال الأنبياء يصبرون على ما كذّبوا وأوذوا ، ويجاهدون فى الحق ، ولا يعتدّون بتعجيز المعجّزين ، ولا بهزء المستهزئين إلى أى يظهر الحق بالمجاهدة ، وينتصر على الباطل بالمجالدة . فينسخ الله تلك الشبه ويجتثها من أصولها ، ويثبت بآياته ويقررها . وقد وضع الله هذه السنّة فى الناس ليتميز الخبيث من الطيب . فيفتتن الذين فى قلوبهم مرض ، وهم ضعفاء العقول ، بتلك الشبه والوساوس ، فينطلقون وراءها . ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة ، فيتخذونها سنداً يعتمدون عليها فى جدلهم . ثم يتحمص الحق عند الذين أوتوا العلم ، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه ، فيعلمون أنه الحق من ربك فيصدقون به ، فتخبت وتطمئن له قلوبهم . والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذى يستقرّ بالعقل فى قرارة اليقين . وبين المغالطات وضروب ..... التى تطيش بالفهم ، وتطير به مع الوهم ، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين . وسواء أرجعت الضمير فى "أنه الحق" إلى ما جاءت به الآيات المحكمات من الهدى الإلهىّ أو إلى القرآن ، وهو أجلها ، فالمعنى من الصحة على ما يراه أهل التمكين هؤلاء الذين أوتوا العلم هم الذين آمنوا . وهم الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم . ولم يجعل للوهم عليها سلطاناً ، فيحيد بهم عن ذلك النهج القويم . وأما الذين كفروا وهم ضعفاء العقول ومرضى القلوب ، أو أهل العناد وزعماء الباطل وقساة الطباع ، الذين لا تلين أفئدتهم ولا تبش للحق قلوبهم ، فأولئك لا يزالون فى ريب فى الحق أو الكتاب . لا تستقر عقولهم عليه ، ولا يرجعون فى متصرفات شئونهم إليه . حتى تأتى ساعة هلاكهم بغتة ، فيلاقوا حسابهم عند ربهم . أو إن امتد بهم الزمن ، ومادّهم الأجل ، فسيصيبهم عذاب يوم عقيم . يوم حرب يسلمون فيه سوء العذاب ، القتل أو الأمر . ويقذفون إلى مطارح الذل وقرارت الشر . فلا ينتج لهم من ذلك اليوم خير ولا بركة ، بل يسلبون ما كان لديهم ويساقون إلى مصارع الهلكة . وهذا هو العقم فى أتم معانيه وأشأم درجاته . ما أقرب هذه الآيات فى مغازيها ، إلى قوله تعالى فى سورة آل عمران {هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، فأما الذين فى قلوبهم زيع فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب} [آل عمران 7] وقد قال بعد ذلك {إن الذين كفروا لن تُغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار} [آل عمران 1.] و{قل للذين كفروا ستُغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران 12] وكأن إحدى الطائفتين من القرآن شرح للأخرى . فالذين فى قلوبهم زيع هم الذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم . والراسخون فى العلم هم الذين أوتوا العلم ، وهؤلاء هم الذين يعلمون أنه الحق من ربهم . فيقولون آمنا به كل من عند ربنا ، فتخبت له قلوبهم ، وإن الله لهاديهم إلى صراط مستقيم . وأولئك هم الذين .... بالتأويل ، ويشتغلون بقال وقيل بما يلقى إليهم الشيطان ، ويصرفهم عن مرامى البيان ، ويميل بهم عن محجة الفرقان . وما يتكئون عليه من الأموال والأولاد ، لن يغنى عنهم من الله شيئاً . فستوافيهم آجالهم ، وتستقبلهم أعمالهم ، فإن لم يوافيهم الأجل على فراشهم . فسيغلبون فى عراشهم . وهذه سنة جميع الأنبياء مع أممهم ، وسبيل الحق مع الباطل من يوم أن رفع الله الإنسان إلى منزلة يميز فيها بين سعادته وشقائه ، وبين ما يحفظه وما يذهب ببقائه . وكما لا مدخل لقصة الغرانيق فى آيات آل عمران ، لا مدخل لها فى آيات سورة الحج، هذا هو الوجه الأول فى تفسير آيات {وما أرسلنا} إلى آخرها ، على تقدير أن "تمنّى" بمعنى "قرأ" وأن "الأمنية" بمعنى "القراءة" والله أعلم .
الوجه الثانى فى تفسير الآيات – أن التمنى على معناه المعروف . وكذلك الأمنية . وهى أفعولة بمعنى المُنية . وجمعها أمانىّ كما مشهور . قال أبو العباس أحمد بن يحيى : التمنى حديث النفس بما يكون وبما لا يكون . قال : والتمنى سؤال الرب . وفى الحديث (إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه) وفى روايه "فليكثر" قال ابن الأثير : "التمنى" تشهىّ حصول الأمر المرغوب فيه ، وحديث النفس بما يكون وبما لا يكون . وقال أبو بكر : تمنيت الشئ إذا قدرته وأحببت أن يصير إلىّ . وكل ما قيل فى معنى التمنى على هذا الوجه ، فهو يرجع إلى ما ذكرناه ويتبعه معنى الأمنية . ما أرسل الله من رسول ولا نبىّ ليدعو قوماً إلى هدى جديد ، وأشرع سابق شرعه لهم ، ويجعلهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولاً ، أو جاء به غيره إن كان نبياً بُعث ليجعل الناس على اتباع من سبقه ، إلا وله أمنية فى قومه . وهى أن يتبعوه وينحازوا إلى ما يدعوهم إليه، ويستشفوا من دائهم بدوائه ، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه . وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته . وتصديقهم برسالته ، منه على طعامه الذى يطعم ، وشرابه الذى يشربه ، وسكنه الذى يسكن إليه . ويغدو عنه ويروح علينا . وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك فى المقام الأعلى ، والمكان الأسمى . قال الله تعالى : {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف 6] وقال {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف 1.3] وقال {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس 99] وفى الآيات ما يطول سرده ، مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه ، وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه ، إلى نور ما جاء به . وما من رسول ولا نبىّ إلا إذا تمنى هذه الأمنية السامية ، ألقى الشيطان فى سبيله العثرات ، وأقام بينه وبين مقصده العقبات . ووسوس فى صدور الناس . وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس ، فثاروا فى وجهه ، وصدوه عن قصده ، وعاجزوه حتى لقد يعجزونه ، وجادلوه بالسلاح والقول حتى لقد يقهرونه . فإذا ظهروا عليه ، والدعوة فى بدايتها ، وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ، ظنوا الحق من جانبهم ، وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد إليه فتنة لهم .
غلبت سنة الله فى أن يكون الرسل من أواسط قومهم ، أو من المستضعفين فهم ليكون العامل فى الإذعان بالحق محض الدليل وقوة البرهان . وليكون الاختيار هو الحامل لمن يدعى إليه على قبوله . ولكيلا يشارك الحق الباطل فى وسائله ، أو يشاركه فى نصب شراكه وحبائله . أنصار الباطل فى كل زمان ، هم أهل الأئمة والقوة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان ، والغرور بالزخارف . والزهو بكثرة المعارف وتلك الخصال إنما تجتمع كلها أو بعضها فى الرؤساء وذوى المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم . فإذا دعا إلى الحق داع ، عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن ، وفزعت إليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله ، بخلوصها من هذ الشواغل . وقلما توجد إلا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعى وظافروه على دعوته ، قام أولئك المغرورون يقولون {ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود 27] . فإذا استدرجهم الله على سنته ، وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين .... ، افتتن الذين فى قلوبهم مرض من أشياعهم ، وافتتنوا هم بما أصابوا من الظفر فى دفاعهم . ولكن الله غالب على أمره . فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ، ويرفع هذه الواقع وتلك العقبات ، ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها . وينشئ من ضعف أنصارها قوة ، ويخلف لهم من ذلتهم عزة ، وتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الشيطان هى السفلى {فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض} [الرعد 17] وفى حكاية هذه السنة الإلهية التى أقام عليها الأنبياء والمرسلين ، تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم عما كان يلاقى من قومه ، ووعد له بأنه سيكمل له دينه ، ويتم عليه وعلى المؤمنين نعمته ، مع استلقاتهم إلى سيرة من سبقهم {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت 2] {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب} [البقرة 214] .
هذا هو التأويل الثانى فى معنى الآية ، ويدل عليه ما سبق من الآيات ، ويرشد إلى سياق القصص السابق فى قوله {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح} [الحج 42] الخ . وأنت ترى أن قصة الغرانيق لا تتفق مع هذا المعنى الصحيح .
وهناك تأويل ثالث ذكره صاحب الإبريز . وإنى أنقله بحروفه ، وما هو بالبعيد عن هذا بكثير . قال "بعد ذكر أمانىّ الأنبياء فى أممهم ، وطمعهم فى إيمانهم ، وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم فى ذلك ، على نحو يقرب مما ذكرناه فى الوجه الثانى" :
ثم إن الأمة تختلف كما قال تعالى(2) {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة 253] فأما من كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له فى الرسالة الموجبة لكفره . وكذا المؤمن أيضاً لا يخلو أيضاً من وساوس ، لأنها لازمة للإيمان بالغيب فى الغالب ، وإن كانت تختلف فى الناس بالقة والكثرة ، وبحسب المتعلقات إذا تقرر هذا فمعنى "تمنى" أنه يتمنى لهم الإيمان ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح ، فهذه أمنية كل رسول ونبىّ ، وإلقاء الشيطان فيها ، يكون بما يلقيه فى قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم ، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم ، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة ، ويبقى ذلك عز وجل فى قلوب المنافقين والكافرين ليفتتنوا به. فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أولاً فى قلوب الفريقين معاً ، غير أنها لا تدوم على المؤمنين ، وتدوم على الكافرين . انتهى .
وأنت إذا نظرت بين هذا التفسير وبين ما سبقه ، تتبين الأحمق بالترجيح . ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحى وانتقض الاعتماد عليه، كما قاله القاضى ... وغيره . ولكان الكلام فى الناسخ كالكلام فى المنسوخ : يجوز أن يلقى الشيطان ما يشاء ، ولا نهدم أعظم ركن الشرائع الإلهية وهو العصمة . وما يقال فى المخرج عن ذلك ، ينفر منه الذوق ولا ينظر إليه العقل . على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يرد لا فى نظمهم ولا فى خطبهم . ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جارياً على ألسنتهم . إلا ما جاء به فى معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة ، كما قال ابن إسحاق . وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت . ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف فى اللغة إلا إسماً لطائر مائىّ أسود أو أبيض . أو وهو اسم الكركىّ أو طائر يشبهه والغرنيق "بالضم وكزنبور وقنديل وسمو أل وفردوس وقرطاس وعُلابط" معناه الشاب الأبيض الجميل . وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة "الغرنوق" كما يسمى به ضرب من الشجر . ويطلق الغرنوق والغرانيق على ما يكون فى أصل الموسج اللين النبات . ويقال "لمة غرانقة" و"غرانقة" أى ناعمة .... الريح أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات الخ . ولا شئ فى هذه المعانى يلائم الآلهة والأصنام ، حتى يطلق عليها فى فصيح القول الذى يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام . فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلفات الملبسين ، ممن لا يميز بين حر الكلام ، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام . فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية ، عما تقتضيه الدراية {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} . انتهى كلام الأستاذ رحمه الله .
وممن جزم بوضع هذه القصة جزماً باتاً ، الإمام ابن حزم رحمه الله . حيث قال فى كتابه "الملل فى الرد على من لم يوجب العصمة من الأنبياء ما مثاله: استدلوا بالحديث الكاذب الذى لم يصح قط فى قراءته عليه السلام فى {النجم إذا هوى} وذكروا تلك الزيادة المفتراة التى تشبه من وضعها من قولهم "وإنها لهى الغرانيق وإن شفاعتها لترتجى" ثم قال بعد : وأما الحديث الذى فيه "الغرانيق" فكذب بحث موضوع . لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد . وأما قوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته} الآية ، فلا حجة لهم فيها . لأن الأمانىّ الواقعة فى النفس لا معنى لها . وقد تمنى النبىّ صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبى طالب ، ولم يرد الله عز وجل كون ذلك . فهذه الأمانىّ التى ذكرها الله عز وجل لا سواها ، وحاشا لله أن يتمنى نبىّ معصية . وبالله تعالى التوفيق.
وهذا الذى قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ، ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق . انتهى ، وقوله تعالى :
6) فى قوله تعالى {والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا لرزقهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين .... مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حكيم} .
بيان لفضل الهجرة والمهاجرين وما أعد الله لهم .
قوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [سجدة] .
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} أى صلوا . وعبر عن الصلاة بهما ، لأنهما أعظم أركانهما . أو اخضعوا له تعالى ، وخروا له سجداً ، لا لغيره {واعبدوا ربكم وافعلوا الخير} أى تحرّوه . كصلة الأرحام ومواساة الأيتام والحض على الإطعام والاتصاف بمكارم الأخلاق {لعلكم تفلحون} أى لكى تسعدوا وتفوزوا بالجنة(15) .
تنبيهات
الأول لم يختلف العلماء فى السجدة الأولى من هذه السورة . واختلفوا فى السجدة الثانية – هذه – فروى عن عمر وعلىّ وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبى الدرداء وأبى موسى ؛ أنهم قالوا : فى الحج سجدتان . وبه قال ابن المبارك والشافعىّ وأحمد وإسحاق ، يدل عليه ما روى عن عقبة ابن عبامر قال(16) : قلت يا رسول الله فى الحج سجدتان ؟ قال : نعم ومن لم يسجدها فلا يقرأهما . وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال : إن هذه السورة فضلت بسجدتين . أخرجه مالك فى "الموطأ" وذهب قوم إلى أن فى الحج سجدة واحدة ، وهى الأولى ، وليست هذه بسجدة وهو قول الحسن وسيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثورىّ وأبى حنيفة ومالك . بدليل أنه قرن السجود بالركوع . فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة – كذا فى "لباب التأويل" أى لأن المعهود فى مثله من كل آية ، قرب الأمر بالسجود فيها بالركوع، كونه أمراً بما هو ركن للصلاة ، بالاستقراء نحون {واسجدى واركعى} [آل عمران 43] وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال .
وما روى من الحديث المذكور ، قال الترمذىّ رحمه الله : إسناده ليس بالقوىّ . وكذا قال غيره . كما فى "شرح الهداية" لابن الهمام .
قال الخفاجىّ : لكن يرد عليه ما فى "الكشف" أن الحق أن السجود حيث ثبت ، ليس من مقتضى خصوص فى تلك الآية . لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة البتة . بل إنما ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قوله . فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة . ومع ذلك يشرع السجود عند تلاوتها ، لما ثبت من الرواية فيه . اهـ .
الثانى – قال فى "اللباب" اختلف العلماء فى عدّة سجود التلاوة . فذهب الشافعىّ وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة . لكى الشافعىّ قال : فى الحج سجدتان . وأسقط سجدة "ص" . وقال أبو حنيفة : فى الحج سجدة . وأثبت سجدة "ص" . وبه قال أحمد ، فى إحدى الروايتين عنه . فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة . وذهب قوم إلى أن الفصل ليس فيه سجود . يروى ذلك عن أبىّ بن كعب وابن عباس . وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة . يدل عليه ما روى عن أبى الدرداء ؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : فى القرآن إحدى عشرة سجدة . أخرجه أبو داود وقال : إسناده .... ودليل من قال "فى القرآن خمس عشرة سجدة" ما روى عن عمرو بن العاص قال: أقرأنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القرآن خمس عشرة سجدة . منبا ثلاث فى المفصل . وفى سورة الحج سجدتان(19) . وصح من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال : سجدتا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى {اقرأ} و{إذا السماء انشقت} . انتهى .
والخمس عشرة : فى الأعراف ، والرعد ، والنحل ، والإسراء ، ومريم ، والحج ، والفرقان ، والنمل ، وآلم تنزيل ، وص ، وحم ، والسجدة ، والنجم ، والانشقاق ، واقرأ .
والفصل من سورة الحجرات إلى آخر القرآن ، فى أصح الأقوال . سمى مفصلاً لكثرة الفصل بين سورة .
الثالث سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع . وبه قال مالك والشافعيّ وأحمد. لقول ابن عمر : كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة ، فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته . رواه الشيخان(20) .
وقال عمر : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء(21)



ثانى عشر : مصادر المفاتيح و هوامش البحث

1- أنظر : السخاوى .. جمال القراء 1/37
الفيروزابادى .. بصائر ذوى التمييز 1/323
الآلوس .. روح المعانى (تفسير سورة الحج)
2- القاسمى .. محاسن التأويل ( " " " )
3- أنظر : مكى بن أبى طالب.. التبصرة ص 265
السخاوى .. جمال القراء 1/209
الفيروزابادى (مصدر سابق)
الآلوس (مصدر سابق)
نثر المرجان 4/440
4- القرطبى .. الجامع لأحكام القرآن (تفسير سورة الحج)
5- الفخر الرازى .. مفاتيح الغيب ( " " " )
6- أنظر : القرطبى .. الجامع لأحكام القرآن (تفسير سورة الحج)
الشوكانى .. فتح القدير ( " " " )
الآلوس .. روح المعانى ( " " " )
7- أنظر : سعيد حوى .. الأساس ( " " " )
سيد قطب .. فى ظلال القرآن ( " " " )
الشيخ المراغى ..تفسير المراغى ( " " " )
القاسمى ..محاسن التأويل ( " " " )
ابن جرير الطبرى ..جامع البيان ( " " " )
12- رواه : البخارى .. ك التهجد ، باب قيام النبى صلى الله عليه وسلم بالليل .. الخ ، مسلم : ك صلاة المسافرين .
13- رواه : الترمذى .. ك التفسير ، باب تفسير سورة الأحزاب .
14- رواه : البخارى .. ك التفسير ، تفسير سورة النجم .
15- رواه : البخارى .. ك التفسير ، تفسير سورة الحج .
16- رواه : أبو داود .. ك سجود القرآن باب .... أبواب السجود ، والترمذى .. ك الجمعة ، باب ما جاء فى سجود الحج .
17- رواه : مالك فى الموطأ .. باب الأمر بالوضوء لمن ... القرآن .
18- " : الترمذى .. ك الجمعة ، باب ما جاء فى سجود القرآن .
19- " : أبو داود .. ك سجود القرآن ، باب ... أبواب السجدة .
20- " : البخارى .. ك سجود القرآن ، باب من سجد سجود القارئ ، مسلم .. ك المساجد .
21- رواه : البخارى "معناه" .. ك سجود القرآن ، باب من رأى أن الله .. الخ.



فضيلة الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر

ليست هناك تعليقات:

« كَفَّارَةُ المَجْلِسِ »

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ » .