
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لَم يعلم، ثم الصلاة والسلام على خير مَن عرَفته البشرية مُعلمًا ومرشدًا، وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
فقد جرَت العادة على وجود فجوة واسعة بين الأعداء الأَلِدَّة، فلا يجتمعون في مجلس واحدٍ، ولا يستظلون تحت سقفٍ واحدٍ، ويسلك كلٌّ فجًّا يختلف عما سلَكه الآخر، ومن ثَمَّ يصعُب - ورُبَّما يستحيل - تصوُّر العداوة بين المتلازمين، كالعداوة بين طالب علمٍ والقلم وما يُسَطِّر، فالطالب يَستصحب القلم في كلِّ أحواله؛ في حِلَّه وتَرحاله، وفي سِلْمه وحربه، بل هو شعاره الحسي والمعنوي، ووسيلته لتحقيق أهدفه في الدراسة وأداء رسالته في الحياة.
فلا يُرى طالب علمٍ إلاَّ والقلم في جيبه معلَّق، بل من أشهر العبارات التي كانت وما زالت يُعاتب بها طالب علم حينما يُفارق القلم ولو لحظة: "طالب علمٍ بدون قلم، أيُّ طالب هذا؟!".
ولكن لا يستغرب من ذلك، فالعداوة رُبَّما تمخَّضت بين الخِلاَّن، ورُبَّما تحوَّل الودُّ يومًا بُغضًا، والمحبة كُرهًا، وفعلاً هذا الحاصل بين طلبة العلم وبين القلم وما يُسطِّر في هذا العصر، بعد أن كان بينهما ولاءٌ لا يقلُّ عن ولاء المؤمن للمؤمن.
هذه العداوة تتمثَّل في عزوف طلبة العلم - خرِّيجي الجامعات - عن الكتابة والبحث العلمي، والتأليف في فنون العلم والمعرفة، فكم من خرِّيج - في مرحلة البكالوريوس فما فوق في بُلداننا - عاش حياته كاملة دون أن يخلف ورقة عملٍ على الأقل، فضلاً عن نتاج فكري يُنير السبيل أمام الأجيال اللاحقة.
تظهر هذه العداوة بجلاء وتَبلغ أوْجَها بعد حصول الطالب على الشهادات العليا؛ كالماجستير والدكتوراه؛ حيث يَنضج فكريًّا وعلميًّا، ويكون في مستوى رفيع، وقد تأهَّل للكتابة والتأليف والبحث العلمي بكلِّ المعايير، واستَغنى عن الإرشاد والإشراف الأكاديمي، ولكن - للأسف الشديد - ثَمَّة مَنيُعلن حربًا ضروسًا على القلم والقرطاس، ويُعلن براءته منه كما يتبرَّأ من أعداء الدين.
فكأنَّ الدكتوراه وأخواتها شهادات رسميَّة للتقاعد العلمي، أو إجازة علمية في التقاعس عن المواصلة في البحث العلمي، فالدكاترة وحَمَلة الماجستير في إفريقيا لا يُحصون إلاَّ بشقِّ الأنفس، ولكن الذين لهم إنتاج علمي وفكري يُعدون بالأصابع، بل يكادون ينعدمون في بعض الأحيان وفي بعض الأماكن، تُرى هل يرجع ذلك إلى البيئة التي تعلَّموا فيها؟ أو البيئة التي انتقلوا إليها؟ أو يرجع إلى الأشخاص أنفسهم، وما يعتري حياتهم بعد التخرُّج من كثرة أشغال عند البعض، ومن خمول وكسلٍ عند البعض الآخر؟ فالاحتمالات قائمة، ويُتَعَذَّر إحصاؤها، ولكن السؤال: على كثرتها، هل تكفي كمبرِّرات؟
فغياب البحث العلمي الجاد عن تلك الأقطار وتقاعس أهلها عنه - أسَهَم بنصيب الأسد في استمرار ضبابية تاريخ القارة الإفريقيَّة الخضراء وحضاراتها، وبقاء كثير من مشاكلها الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية المعاصرة، دون إيجاد حلول ناجعة لها، وأدَّت بأصحاب تلك المهارات والقدرات العظيمة في البحث العلمي إلى القتل الرحيم، وعدم اكتشاف الطاقات الكامنة في نفوس الناشئة في الكتابة والتأليف، إلاَّ مَن أدرَكه الله بلُطفه ورحمته، وقليلٌ ما هم.
هذا فلا يُنتظر من عربيٍّ أو غربيٍ أو أسترالي، أن يضرب أكباد الإبل إلى إفريقيا؛ لدراسة قضاياها المحليَّة الخاصة أبدًا، وإن حصَل عكس ذلك في بعض الأحيان، من خلال الدراسات الأكاديمية في جامعات تلك الأقطار، خاصة الدراسات التطبيقيَّة منها.
والحل - أيُّها الأفاضل - لهذه المُعضلة، هو أن نُصلح علاقتنا مع اليراع والقرطاس، ونحوِّل تلك العداوة صداقةً، وذلك البُغض مَحبَّة، وذلك بوضْع حوافز ومشجِّعات معنويَّة وحسيَّة على البحث العلمي، من خلال المؤسَّسات التعليميَّة المحليَّة على اختلاف مراحلها، وبناء معاهد محليَّة متخصِّصة في البحوث الشرعية والعلمية، ومن خلال الملتقيات والمُنتديات والمواقع العلمية والثقافية؛ حتى نضعَ الحدَّ من كوننا - الأفارقة - أُمَّةَ استهلاكٍ لا إنتاج في جميع مجالات الحياة.
والله من وراء القصد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق