خطك يتبع يدك.. فاغسلها قبل أن تكتب | |
![]() حياتنا مملوءة بالخطوط.. بدءا من خطوط اليدين وحتى خطوط الجبين الشوارع مملوءة بالخطوط. خطوط في الساحات. خطوط على يافطات الحوانيت والدكاكين. خطوط في الصحيفة. خطوط في لائحة الطعام، خطوط في دفتر المدرسة. خطوط على السبورة. خطوط على شواهد القبور، وخطوط على أبواب الدور.. خطوط في خطوط.. خطوط الطول والعرض. خطوط المرأة. خطوط الرجل. خطوط الكهل وخطوط الطفل. خط للنساخ غير خط الطبيب، وخط المهندس غير خط موظف البنك، وخط الجنرال غير خط الجندي. خط في الرمل، وخط في الحجر، خط على النحاس وخط على الخشب. خط في الثوب وخط على الكأس. خط سريع متلكئ أو مرتبك، وخط آخر وادع مستكين. خط مهزوز وآخر راسخ متين. خط كبير وآخر صغير. خط متعجرف وآخر متواضع. خط لائذ بالورق ومختبئ فيه، وآخر كأنه يريد الفرار من الورق. خط جلف وخط مهذب... إلخ، فبعد كل خط وقبل أي خط هناك قول الشاعر: “الخط يبقى زمانا بعد كاتبه وكاتب الخط تحت الأرض مدفون” يقال ان الخط هو علامة على شخصية كاتبه، ويقال ان الخط يعكس سيكولوجية الخطاط ومزاجه وروحيته وربما طبيعة سلوكه. والخط يكبر مع الانسان ويتحول بتحولاته النفسانية والعاطفية وربما الفكرية. فخطك في الصف الاول الابتدائي غير خطك وانت في الثانوية العامة، وهو غير خطك وانت في الجامعة أو وأنت خلف مكتب عمل. اليد. اليد البشرية التي نعمل بها ونتصافح ونأكل ونتوعد ونشير وندخن ونحمل اطفالنا وازهارنا الى مواعيدنا العابرة.. هذه اليد التي تعمل بصمت ولا تعرف الثرثرة هي التي تنشىء الخط وتتحكم به وتخرجه على صورته المكتوبة. خطك يتبع يدك فاغسل يدك قبل ان تكتب وقبل ان تخط عبارتك لا تترك اثرا من ضغينة في قلبك وانت تكتب لكي تجري يدك بالقلم مجرى الماء في جدول. فالقلب الذي يحمل ضغينة يثقل على اليد وعلى القلم والحبر والورق.
حدق في يدك حدق في تلك الاصابع الثلاث التي تضم على القلم وتحضنه كما يحضن تويج الزهر قطرات الندى، وابدأ دائما بسم الله الرحمن الرحيم. خطوط كثيرة تمر في حياتك. أولها خط الطبشور الأبيض على السبورة السوداء في سنتك المدرسية الاولى. ستتعلم الأبجدية اولا بقلم الرصاص، والى جانبك دائما تلك الممحاة التي تبعث رائحة ستتذكرها طويلا حتى وانت في الاربعين من عمرك كلما مررت بالقرب من مدرسة. تحيلك رائحة الصف الاول الابتدائي الى بداية الاشياء، بداية التعلم، بداية الكتابة، بداية القراءة. بداية تعرفك الى بصمتك الأخرى: بصمة الخط. أجل .. الخط “بصمة”.. إنه اشارة، وهو رمز .. والخط ايضا هو “موسيقاك” التي تعزفها وحدك. ولكن قد تتشابه خطوط الناس، وهي في مثل هذا التشابه قد تعكس تشابها ايضا في الشخصيات والسلوك والامزجة والعواطف. تماما مثلما تتشابه موسيقا شعب مع موسيقا شعب آخر. والخط.. فن الخط اصغاء مضمر. وهو انسياب أبجدي يكوّن لوحته من خلال روح الخطاط الذي يبث كل قلبه في الورق والمداد. لذلك ينطوي فن الخط العربي على أبعاد روحية وصوفية اضافة الى أبعاده الجمالية. .. من هو الخطاط الاول الذي انتبه الى هذه الابعاد، فنقل الخط من وظيفته الكتابية المحدودة الى وظائفه الروحية والجمالية الأخرى؟ أظن ان هذا التحول الذي طرأ على الخط، وجعل منه فنا قائما بذاته كان يحتاج الى مجموعة من الكتبة والخطاطين والنساخين والمدونين، فالفن القائم بذاته لا يجترحه فرد بعينه. انما هناك مجموعة من الأفراد يقدمون مجموعة من الاقتراحات ومع الزمن يتراكم إرث من الرؤى والاجتهادات، تكون بالتالي فكر الخطاط وثقافته. .. والخط فن، لأنه ابداع يدوي. إنه أقرب الى فن النسيج أو فن الحياكة.. والخطاط.. “خياط” من نوع آخر. انه يحترف جزءا من الكتابة وان كان ليس كاتبا.. والخطاط حرفي الحبر والقلم والرقعة. انه يرسم الكلمات ويشكلها ويغذيها من طاقته الروحية قبل طاقته اليدوية. وما من خطاط إلا وفيه لمسة روحية خصوصية جدا. في قلب الخطاط قبس من ايمان ونور يشع في لوحته الخطية أو الحروفية. اشعاع فيه نوع من سكينة وامتثال الى عبقرية الحرف وتكوينه وانسيابه وغزارة دلالاته. الحرف بين يدي الخطاط يصبح اكثر من حرف. الحرف الواحد يصبح لغة وفضاء مفتوحا للتأويل والقراءة الرمزية والاشارية والدلالية المستنبطة من القراءة التشكيلية للخط نفسه. النون.. على سبيل المثال، هي بالنسبة الى الخطاط ليست مجرد علامة أو صوت أو جزء من أبجدية. ويعلمنا الخطاط ان نبحث في النون عما هو خارج صوتها وشكلها الابجدي الوظيفي في اللغة. الألف.. فضاء آخر، ايضا، بالنسبة الى الخطاط. والخطاط هو الأدرى بطاقة كل حرف، هو الأدرى بمحمولات الخط الوجدانية والرمزية، وهو الأدرى بمعرفة الصوت السري للحرف. هذا الصوت المضمر المخبأ في “مكان آخر”. والسين.. على سبيل المثال ايضا، هي كذلك فضاء آخر في “مكان آخر” وربما في “زمن آخر”. الحرف وحده، كما قد يكون فعلا كاملا، هو ايضا يمكن ان يكون وحده لوحة كاملة. ويمكن للحرف، حرف واحد فقط، مجرد حرف “ايقونة” مشعة في ركن بيت أو حتى في ركن كهف. والحرف الأفقي ينطوي على دلالات غير تلك التي ينطوي عليها الحرف العامودي، كذلك، كما يبدو لي هناك حرف بارد، وهناك حرف حار. هناك حرف صائت وهناك حرف ساكت. وتكاد تكون للحروف رائحة واصوات وهويات. وللحروف مرايا. ونحن كبشر تحملنا الحروف. كل اسم انساني يتكون من حروف وصوت اسمك هو صوتك. اصوات حروفك هي اصوات شخصيتك. .. صوتك في اسمك .. واسمك في صوتك اللسان يقرر الصوت أو صوت الحرف واليد تقرر الخط أو صورة الخط اللسان يملي واليد تدون اللسان يجنح الى الثرثرة والقول والكلام واليد تجنح الى السكوت اللسان يغني، واليد ترقص قد يقع اللسان في النميمة وتقع اليد في الكتابة .. الكتابة تطهير وتصوف واسترسال في الغائب والحاضر، والكتابة تخطيط وتأشير على القلب والروح والوجدان. وانت تكتب، أي انت تخط. وما تركته اليد البشرية من كتابات فطرية “برية” اولى وضاربة في القدم، هي وثائق ومخطوطات، كانت اليد نقلتها عن اللسان، وكان اللسان نقلها عن القلب والعقل، والواسطة بين هذا وذاك هو الحرف. يتعلق الشعراء بالخط اكثر من غيرهم. وفي مرحلة شعرية عربية ذهب الشعراء الى التشجير والتدوير والتربيع والتثليث في خطوط اياديهم التي صاغت المعلقات بماء الذهب، وكثبت الصدر والعجز، وجعلت الشاعر البدوي يخط على الرمل، ويتذكر طلله بالدم والدموع. يقول الشاعر خالد البدور: منذ عمر مبكر سحرني الخط العربي، وكنت أتأمل اشكاله المتعددة في الكتب القديمة والمجلدات، لهذا تعلقت بدفاتر الخط العربي التي كانت مقررة علينا في الابتدائية. كنت انهي واجبات الكتابة فيها بمتعة وحب الى درجة ملء صفحات اضافية او تلك التي ليست مقررة كما اني استطعت الحصول على المزيد من تلك الدفاتر الجميلة. كانت تساعدني لأن بها اساليب الخط وكيفية التحكم بالزوايا والانحناءات من خلال نقاط موضوعة مسبقا. بعد ذلك حملتني رجلي الى المكتبات مفتشا عن المزيد من انواع الخطوط وتمكنت من اقتناء دفاتر لاشكال خطوط متنوعة مثل النسخ والرقعة والثلث والديواني والفارسي والكوفي، في المدرسة كنت اتنافس مع زميل لي على جودة الخط. وقد تعلق هو بالنسخ والثلث بشكل كبير بينما كنت اميل الى الرقعة والديواني، كانت تحدث بيننا مناقشات لا تنتهي حول الخطوط الأجمل وكان يقول ان الرقعة خط هجين وغير اصيل وان القرآن يكتب في معظمه بالنسخ لذا هو أفضل. كما احببت الفارسي وكانت لدي أوراق كثيرة عليها ابيات شعر اخطها بأشكال عدة. اتذكر انني شغفت بالاقلام خاصة ذات الرؤوس العريضة التي تسمح بالخط، كما انني ابتعت ريش خط وحاولت صنع ريش اخرى بيدي وكانت لدي انواع عدة من الاحبار والألوان. ارتبط ذلك ايضا بتعلقي بالرسم والزخرفة وكانت دفاتري وكتبي المدرسية مزينة بالخطوط والاشكال. الآن بالرغم من وجود الكمبيوتر الذي سهل الأمر كثيرا إلا انني ما زلت احتفظ برغبة الكتابة باليد بين فترة وأخرى خاصة بعض المقاطع الشعرية أو الرسائل. الشاعر خالد الراشد يرى انه في الكتابة تستوي الأشياء وتنتهي في الفعل، يقول: تذهب الرعشة بعيدا عن الارض، ويذهب الخوف من الوجود، في الكتابة فقط، استطيع ان امسك بعقلي كاملا، متحررا عن الماضي، وايضا متحرر عن مآلات المستقبل، حيث الكتابة فقط لعمل العقل في اللحظة ذاتها، بأحاسيسها الكاملة، حيث العقل وحيد في الجسد. ان تمسك بعقلك في حياتك على الارض. مسألة في غاية الأهمية لأننا كبشر نشتغل بين زمنين، الماضي كذاكرة والمستقبل كطموحات مستترة، لا نفكر في “الآن” وهذا ما تعلمته من الطبيعة في الهيمالايا، حيث الاحاسيس تشتغل دفعة واحدة وتشعر انك لا تريد ان تنام. علمتني الدروب التي قطعتها بحثا عن كل شيء في الهيمالايا، من شرقها حتى غربها، ومن جنوبها العميق حتى شمالها، كيف اكتب ناذرا كل شيء الى الطبيعة، الصورة المصغرة للمرأة، ولن يكون خطي بعيدا عن حياة الطرق وسط غابات الهيمالايا، حيث تنتمي للحياة الى المكان، وحيث المكان جزء من البحث في الانسان الذي تاه ولا يزال في البحث عن الضوء. الخطوط من حياتنا هي دروبنا في حياتنا التي تمضي متوهجة بالروح، والتي تمضي متوهجة بالبحث عن اصول الحياة ومتطلعاتها الكبيرة. لقد تعلمت تخطيط الكتابة من الجبال الكبيرة، حيث الغيوم والقرى نقط على الحروف الكبيرة، حيث الحرف جبل. أحمد راشد ثاني كما يقول عاش فشلا ذريعا مع الدفاتر.. يقول: ورقة بيضاء منفردة على كومة من الاوراق، اضعها على الطاولة وأبدأ، لنقل انني اكتب مقالا لجريدة. الفكرة تحوم في رأسك وربما الجملة الاولى ايضا ثم يهرول القلم على الورقة. حين تستعيد انفاسك يبدو القلم بين يديك واقفا بشكل مقلوب كأنه مهرج يسخر من جلوسك العبثي هذا على الكرسي، ومن يديك المستعدتين كجيش ذاق كل الهزائم، ولا تحس لا بالقلم ولا بالورقة حين ينكسر مفتاحك الصدئ وينفتح ما قد نسميه مؤقت الروح كما البراري الشاسعة، فلا تعرف من بين أي بحر تغرف. حينها يختفي الشخص ايضا، وبالطبع معداته. الخط هنا ربما يعثر على نفسه. ولكن كيف هو الخط لو كتبت هذه الجملة مثلا: ذهبت الى السوبر ماركت اليوم. أمر ما يجعلك تحسه باهتا، فالكتابة الأخرى بشكل ما احساس بحضور او بتجلي الكلمة، بسحرها في هذا الوقوع، المتعين على الورق. تؤكد على الكلمة فتمتلئ المفردة بالخبر. تستطيل بعض الحروف أو تتكرر كأغنية، أو تضع نقطة على حرف كما تطلق رصاصة على احتضار موجة، أو العكس تضع موجة في الكأس وتكون نقطة. ولأمر ما يحدث انفصال تام عما تكتب حين يطبع على الآلة، حينها على الاغلب تغدو بالنسبة لي كتابة منتهية، واستطيع التدخل أو المراجعة بمقدار. ذلك المقدار لعله الكتابة. ويرى الشاعر عادل خزام علاقة متداخلة بين الخط والشعر وان بدايات كل شاعر قد تكون نابعة من تلاعبه بالخطوط.. يقول: تعلقت بالخط منذ الصغر، وكنت اخط القصائد بأسلوب جميل جدا وفيه نوع من القداسة والتبجيل والفخامة، لكن ذلك كان في مرحلة البدايات في المدرسة ثم مع تطورت التجربة بدأ الخط عندي يأخذ أبعادا جديدة، فصرت مثلا لا أجيد كتابة القصائد إلا بنوع معين من الاقلام وباللون الازرق على الأغلب، وكانت تلك الاقلام بمثابة المفتاح في الكتابة، وكنت اخبئها في اماكن سرية كي لا تضيع. اليوم، انظر الى الخط من أفق آخر، فيقدر الجمال الذي احرص عليه، فإنني احرص ايضا على “الوضوح” الشديد، وهو أمر نابع من تلك العلاقة المقدسة مع الكلمة خشية ان تقرأ في غير معناها، اضافة الى ان الخط العربي يحمل في شكله نوعا من القداسة المستمدة من القرآن الكريم، وقد لاحظت ان جميع خطوط اصدقائي الشعراء جميلة وواضحة في حين تنتفي هذه الصفة في خطوط النقاد والباحثين وتتلاشى في خطوط الاطباء ولا اعرف السبب. الخط من وجهة نظر أخرى هو هندسة روحية، وهذه الدوائر والانحناءات والنقط وغيرها تتداور في اندغام سري وتسري في الجسد الانساني، وفي جسد القصيدة من دون نقصان، وأي خلل في الميزان الهندسي الروحي للخط قد يصبح خللا في التناغم الروحي للنص الشعري، وهو أمر لا يدركه إلا من غرقوا في الكتابة الى درجة العماء. خط الشاعر هو نبع الجمال، هو اللحظة التي تتفتح فيها زهرة الكلمة، والشاعر اول من يشم عبقها، انها لحظة الاكتشاف الاول لما يمكن ان يصبح لاحقا المعنى، أو الرمز، أو قصيدة الخلق التي تستمر الى الابد. الشاعر أحمد العسم تعود ان يكتب لا من أجل الخط بل من أجل ان يخط افكاره ومشاعره على مساحة من الورق.. يقول: ما اعرفه ان مبدعين كثيرين في العالم خطهم غير مقروء وان من يهتم بحسن الخط يهمل افكاره، أو على الاقل يتركها متناثرة، وأنا أحب ان تكون افكاري متعاضدة، أحب ان أقرأها على بياض الصفحات كي أعيشها وتشعرني بالانتعاش. |
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
الأحد، 19 فبراير 2012
خطك يتبع يدك.. فاغسلها قبل أن تكتب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق