(1) الإسلام وقضية البعث:
إن القرآن الكريم كتاب موعظة وهدايةٍ, وهو حجة الله على خلقه إلى يوم الدين, وكانت عند أهل مكة الذين تنزل القرآن بلغتهم وبلسانهم عقيدة مغلوطة مكذوبة ألا وهي عقيدة إنكار البعث, ولذا تميز القرآن المكي بعدة مميزات أهمها وأعظمها إثبات البعث بعد الموت, أي يمثل قدرة الله تعالى على خلقه وعباده, وقد جاء أمية بن خلف مرةً إلى النبي وقد أمسك في يده عظامًا قد بليت وقال: يا محمد هل يستطيع ربك أن يبعث هذه بعد ما بليت؟ بعد أن طحنها بيده, فقال له النبي « نعم، ويبعثك ويدخلك النار».
(2) سورة الواقعة وقضية البعث:
وآيات سورة الواقعة وهي سورة مكية تقف على جانب عظيم من هذه الحقيقة وهذه العقيدة, عقيدة البعث بعد الموت, وما حوته هذه السورة العظيمة يدل دلالة أكيدة على قدرة الله تعالى على بعثه لخلقه بعد الممات, وكلنا يدرك أن هذا البعث لا يمثل خلقًا جديدًا بقدر ما يمثل إعادة للخلق الأول, كما قال سبحانه أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ فإن الله الذي قدر على إيجاد الخلق من العدم قادر على إعادة هذه المخلوقات من جديد.
بدأت هذه السورة, بتقسيم حال الناس يوم القيامة, إلى أقسام ثلاثة, وختمت السورة بمآل هذه الأقسام الثلاثة, لتؤكد على أنها وحدة كاملة شاملة تؤكد ما يحدث بعد الموت وما يحدث يوم القيامة, وسميت القيامة بالواقعة, وأثبتت السورة صدق وقوعها يوم القيامة, وصفت هذا الوقوع بالزمزمة وبرجة الأرض, وكيف أن هذه الجبال الشم الرواسي ينسفها الله نسفًا فتصير كذرات التراب أو الرماد.
(3) أقسام الناس يوم القيامة من خلال سورة الواقعة:
• القسم الأول: هم المقربون وهم خير هذه الأمة وخير البشر على الإطلاق, وهم أتباع النبي وأصحابه, وهم صدر عظيم من صدر هذه الأمة ومن خواتيمها, وبقية منها كما يشمل هذا الوصف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وأولئك من المقربين إلى الله سبحانه وتعالى, وفي ذلك إشعار إلى أنه ينبغي لكل مسلم أن يديم على طاعة الله , من خير هذه الفئات يوم القيامة.
• القسم الثاني: هم أصحاب اليمين: وهم من عباد الله المؤمنين، وقد تناولت السورة وصفًا دقيقًا لما أعد الله لهم، بحيث إذا قرأها الإنسانُ منا, أو نظر إلى أهلها تأكد له أنه يعاين الجنة ويراها رأْي العين وَأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لأَصْحَابِ اليَمِينِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ(الواقعة:40,27)
هذه الحقيقة مثلها النبي لأصحابه, فرآها القوم رأي العين, حين جاءت امرأة إلى النبي وهي تسائله: يا رسول الله أأدخل الجنة؟ قال لها: «لن يدخل الجنة عجوز » وفي ذاك مزاح لها وأخبرها أنها ستدخل الجنة, كأحسن الشباب لأنه لا عجز ولا شيب في الجنة, وهذا الوصف إنما هو تقريب للتشويق, حتى يحس كل مؤمن وكل راغب في الخير أنه يرى الجنة رأي العين.
• القسم الثالث: هو أدنى هذه الفئات, وهم أصحاب الشمال, وبين كيف أن حالهم في حميم, وأن مقامهم في جحيم, وأن هواءهم حارٌ ومقامهم في قمة المهانة والعذاب, ثم تلومهم الآيات وتقرعهم أنهم كانوا قبل ذلك مترفين, وكانوا يصرون على الحنث العظيم, وكانوا ينكرون البعث وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لقد كان يستبعدون قدرة الله سبحانه وتعالى عليهم بعد الممات, فأراهم الله قدرته.
4- النظر في آيات الكون المفتوح للتعرف على عظيم قدرة الله:
ثم تنتقل السورة انتقالا رائعًا وهي تبين جانبًا من جوانب محسوسة, يراها كل البشر في هذه الدنيا, عبر النظر في كتاب الكون المفتوح, وهي تبين جوانب الخلق, خلق الله للإنسان من العدم, وبيان تكفُّل الله تعالى برزق هذا الإنسان، ورزقه مما يزرع ويحصد ويجني أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ (الواقعة58-62).
ثم يضرب المثل بالماء الذي ينزل من السماء, أمور ثلاثة خلق الإنسان ورزقه من طعامٍ وما ينتج عن هذا الزرع من مستخلصات في الكساء وما شابه ذلك, ثم النعمة الكبرى وهي نعمة الماء, يضرب الله تعالى لهذا للإنسان الذي يصر على إنكار البعث, ويسائله بعد كل نعمة سؤال لوم, يعود به إلى ربه وإلى رشده, فيسأله عن هذه الصنعة من الذي صنعها ومن الذي أوجدها من العدم؟.
إذا كان الله قد خلقك أيها الإنسان من العدم, وتكفل برزقك, وأنزل لك الماء عذبًا فراتًا سائغًا, فإنه سبحانه وتعالى يستحق التعظيم والتسبيح والتقديس فهو الله رب العالمين .
(5) النجوم في السماء إحدى آيات العظمة والقدرة :
ثم ترتفع الآيات ارتفاعًا عن مستوي الأرض, لتصل إلى النجوم فيقسم الله تعالى بها فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (الواقعة75-76) والله له أن يقسم بما شاء, وقد كان فئة من المشركين تعبد النجوم والكواكب, فالله بين لهم أنها خلقٌ من خلقه, وأنها شاهدة على قدرته وشاهدة على أن الوحي المنزل من عنده سبحانه وتعالى. تتحدث آيات سورة الواقعة عن منازل النجوم ومواقعها الثابتة, فما النجوم والكواكب إلا جند من جنوده وبقية من خلقه.
(6) مشاهد الموت وبيان المصير :
ثم انتقلت الآيات إلى الحديث عن آخر لحظات الإنسان في هذه الدنيا, وهي تضع الإنسان أمام حقيقة عظمى, فلقد طوت هذه الآيات حياة الإنسان وهو يظن أنها حياة طويلة, إلا أنها قصيرة بجانب خلق الله الكبير العميم, تطوي الآيات هذه الحياة بما فيها من نعم, نعمة الرزق والمطعم والمشرب, هذه النعم لا يقدر على إتقانها ولا إتقان صنعتها إلا واهب هذه النعم, لتؤكد أن هذه الحياة مهما طالت في نظرهم ومهما تمتعوا بنعيمها فإنها في يده سبحانه حقيرة صغيرة لا تعجزه وإنما تهون عليهوَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ (الروم:27).
وتعرض السورة في ختامها مشهد توديع الإنسان لهذه الحياة, وهو مشهد رهيب مخيف, يخاطب في النفوس كوامنها, ويحرك الإيمان داخل هذه النفوس, ويهزها هزًا عنيفًا إن كان فيها بقية من إيمان, ومن منا يطيق أن يتحمل سكرات الموت ساعة خروج الروح؟ لقد رأي أسامة بن زيد حفيدة النبي أمامة بنت زينب تعالج خروج الروح, فصرخ أسامة, فنهاه النبي عن ذلك وقال « إنما البكاء رحمة, والصراخ من الشيطان ».
قال العلماء وهم يصورون حالة خروج الروح: "إنها أشد من ضربات السيوف وطعنات الرماح" وحسبنا حديث النبي حينما تنزل ملائكة الله تعالج خروج الروح المؤمنة من الجسد المؤمن, فتأتي الملائكة معها حنوط من حنوط الجنة, وكفن من أكفان الجنة, وينادون على هذه الروح بأحب أسمائها: اخرجي إلى روح وريحان, ورب عليك غير غضبان, ويهنئونها بالجنة فتستبشر يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر27-30).
وأما الروح الكافرة فإنه يستقبلها ملائكة من النار بحنوط من حنوط النار, وكفن من أكفانها, فما أن تراهم حتى تتفرق في الجسد, فينتهرونها بأبشع الصفات, ويتوعدونها وعيد الجبار, فإذا بالروح تفرق في الجسد كله فتنتزع, كما ينتزع الشوك من السفود, أي الصوف المبلول, ما أبشع هذا المشهد!.
الله يجلي هذه الحقيقة ليختم بها قبل الحديث عن الأصناف الثلاثة من جديد, لتكون عبرة لكل إنسان, يقول له: اذكر نهايتك على هذه الأرض, وانظر كيف حال من واريتهم التراب من أهلك وأحبابك وإخوتك, هل نسيت قوتهم وصحتهم وسلطانهم وجبروتهم, وحسبك بآل فرعونكَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(الدخان25-29)
انظر إلى الآيات وهي تخاطب هؤلاء لحظة خروج الروح, وكيف أنها تعالج من الحلقوم فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(الواقعة84-85) زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر, الأهل والأولاد عند قدم الميت يتضاغون ويبكون, والزوجة عند رأسه تبكي, والكل يقول له: إلى من تفارقنا وإلى أين المصير؟
والقرآن الكريم يتحدى الجميع: إن كنتم تستطيعون له نفعًا فهَبُوا له لحظة أو ساعة من العمر, أطعموه وأسقوه ! إنما الذي خلقه وأطعمه وسقاه في البداية هو الذي سلب منه كل ذلك الآن إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(يس:82) كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(المؤمنون:100) أنتم يا أحبة هذا الميت قريبون منه, ولكن الله تعالى أقرب إليه منكم, فإنه أقرب إليه من حبل الوريد, فإن كنتم تستطيعون للموت دفعًا فامنحوه الحياة, فإنكم لم تستطيعوا أن تهبوا هذا لأنفسكم, فلتأخذوا العبرة ممن مضي من هؤلاء, اذكروا صحتهم وأعمارهم وسلطانهم وكبرياءهم.
وبمجرد أن أمر ملك الموت أن يعالج الروح, وغرغرت العينان ويبست الشفتان, فإن نزل عليه ملائكة الرحمة رأى البشر فاستبشر وتبسم, وإن نزل عليه ملائكة العذاب سود الوجوه, فإنه يسود وجهه ويكتئب ويحزن.
إنها البداية وما بعدها دليل عليها, ألا فليعقل كل مؤمن وكل إنسان في هذه الدنيا, أن الله قادر عليه, وأن يعد لهذا الموقف موقفه وللسؤال جوابه, وليعد نفسه للعرض على الله .
قال رجل للفضيل بن عياض: عظني. قال: كم عمرك؟ قال: سبعون. قال منذ سبعين سنة وأنت تسير إلي ربك, أوشكتَ أن تصل, فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون, قال له الفضيل: وهل تعرف معناها, من عرف أنه إلى الله راجع, فليعلم أنه بين يديه موقوف, ومن علم أنه بين يدي الله موقوف, فليعلم أنه مسئول فأعد لكل سؤال جوابه, فبكي الرجل وعلا نحيبه وقال: ما المخرج يا فضيل؟ قال: أصلح ما بقي يصلح لك ما مضى, وإن أسأت فيما بقي, أخذت بما مضى وبقي.
إن لحظة خروج الروح أيها الأخوة الأحباب, والقرآن الكريم يبينها تخويفًا ووعيدًا للمشركين الذين ينكرون البعث بعد الممات, لهي إنذار ووعيد شديد لهم وأنه حين تخرج الروح لا يقبل من عبد عملا, إذا وصلت وبلغت الروح الحلقوم ووصل الإنسان إلى الغرغرة حينها لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا(الأنعام:158) ومن لطف الله أنه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر أي لم تصل روحه الحلقوم.
وما بدأت به الآيات من سورة الواقعة, فإنها ختمت به، مؤكدة على صدق الوحي وصدق نبوة النبي وتأكيد عقيد البعث بعد الموت، والدعوة إلى تسبيح ربنا العظيم. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق