مفاتيح سورة النور
مفاتيح سورة النور |
|
أولاً:اسم السورة
هذه السورة تسمى بـ
1- سورة النور(1)
وذلك : لكثرة ذكر النور فيها ، مثل قوله تعالى :
{الله نور السماوات والأرض} [الآية 35] .
وكذلك لاشتمالها على ما أمكن من بيان النور الإلهى بالتمثيل ، المقيد كمال المعرفة لنوع الإنسان ، مع مقدماتها .
وإذا كان اسمها النور
فإن "النور" يذكر فيها :
بلفظة متصلاً بذات الله تعالى {الله نور السماوات والأرض} .
وبآثاره ومظاهره فى القلوب والأرواح .
فمثله هذه الآثار فى الأداب والأخلاق التى يقوم عليها بناء هذه السورة .
وهى آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية ، تنير القلب ، وتثير الحياة .
وتربطها بذلك النور الكونى الشامل . وأنها نور فى الأرواح . وإشراق فى القلوب ، وشفافية فى الضمائر ، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير .
ثانياً : عدد آيات السورة و كلماتها و حروفها
آياتها(5) : (64) أربع وستون آية(1) .
كلماتها : (1316) ألف وثلاثمائة وستة عشرة كلمة .
حروفها : (5680) خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفاً .
ثالثاً : ترتيب السورة فى المصحف و فى النزول
أ-فى المصحف ..بعد : سورة "المؤمنون" ، وقبل : سورة "الفرقان" .
ب- فى النزول ..بعد : سورة "الحشر" ، وقبل : سورة "الحج" .
رابعاً : سبب نزول السورة
من المتفق عليه بين جمهور العلماء أن هذه السورة : نزلت بالمدينة .
ومن المتفق عليه أيضاً : أنها نزلت عقب عروة بنى المصطلق .
وقد نزلت هذه السورة – كما هو واضح – من بيان القرآن نفسه – فى شأن السيدة عائشة رضى الله عنها ، حين رماها أهل الإفك من المنافقين بما تقولوا عليها به من الكتاب والبهتان . وقد حصل ذلك – كما تتفق عليه جميع الروايات المعتد بها – أثناء ....من غزوة بنى المصطلق(6) .
ويلاحظ : أننا ذكرنا ذلك . مع التأكد على أنه لا يعد سبباً لنزول السورة ولم يقل لذلك أحد من العلماء .
خامساً : مكية السورة و مدنيتها
أنظر : النقطة السابقة .
سادساً : فضل السورة
بلغ من فضل هذه السورة :
أ- أن كان هناك تشديد فى وجوب تعلمها ، مثل :
ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقى عن مما هو قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور) وهو مرسل(7) .
وما ورد عن حارث بن مضرب رضى الله عنه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور(8)" .
وما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت "علموا النساء سورة النور" .
ب- أنه اجتمع فيها خصائص القرآن الكريم كلها على أوضح ما يتكون ذلك .
ففيها : البيان ، وفيها : المثل ، وفيها : الموعظة ، وفيها : الهداية ، وفيها: الحق والعدل ، ومنها : الحكم التكليفى . وفيها : التعليل ، وفيها : التذكير .
إلى غير ذلك مما هو من خصائص القرآن(10) .
جـ- كما أن هذه السورة نموذج رائع على الآيات البينات التى أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن ثم تجد فيها : روائع التشريع ، وروائع الأسلوب ، وروائع الانتقال ، وذوى البلاغة .
والقرآن الكريم كله كذلك 00 ولكن هذه الأمور فى هذه السورة تكاد تكون أظهر .
إن فى هذه السورة : من التصوير أروعه ، ومن التمثيل أروعه ، ومن التشريع أروعه ، ومن الإنذار أروعه ، ومن التبشير أروعه ، ومن التأديب أروعه.
ومن ثم : فإن من فهم هذه السورة ، وعرف أسرارها ؛ أدرك من أسرار البيان القرآنى ، وأسرار الإعجاز تشرف أنوار اليقين على قلبه فتغمره .
إنك تجد فيها : مقاطع ، كل مقطع له نكهة خاصة ، وله بداية ونهاية خاصتان ، وفى كل مقطع جمال وحلال وإسرار .
إنها سورة : اجتمع فيها من الأناقة والرشاقة فى اللفظ والموضوع والتسلسل والتوجيه ما هو النموذج لإدراك أن هذا القرآن آيات بينات(10) .
سابعاً : صلة السورة بما قبلها
بالرغم من تكون السورة السابقة من السور المكية وهذه من السور المدنية 00!!
فإن سورة "المؤمنون" تعد كالمقدمة ...لهذه السورة بحث الناس على الإيمان وكيفية اكتساب صفاته والتحلى بها . حتى يكون التزامهم بأحكام سورة النور عن يقين واقتناع ورغبة فى نوال مرضاه الله تعالى .
ومع ذلك : فإن هناك من وجوه التناسب الخاصة ما نعرض بعضاً منه على النحو التالى :
1- شدة الترابط بين خاتمة "المؤمنون" وفاتحة النور .
إذ أنه لما أمر الله تعالى نبيه الكريم يطلب الرحمة والمغفرة فى قوله {وقل ارب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} ..!!
اتبع ذلك – من فضل رحمته – بسورة أنزلها ، وأحكام فيها فرضها يوصل الالتزام بها ، والخضوع لها ، لنوال غفران الله تعالى ورحمته .
2- إذا كان نتعالى بين فى سورة "المؤمنون" بعض صفاتهم بقوله {والذين هم لفروجهم حافظون} ..!!
- فقد بين فى سورة النور : أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزانى .
- وكذلك ما يتصل بذلك من شأن القذف ، وقصة الإفك . وأمر ... بغض البصر الذى هو داعية الزنا . والاستئذان الذى إنما هو جعل من أجل النظر.
وأمر فيها كذلك : بالانكاح حفظاً للفروج ، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف .
ونهى فيها : عن إكراه الفتيات عن الزنا(8) .
3- إذا كان تعالى قد بين فى سورة "المؤمنون" أنه لم يخلق الخلق عبثاً ، بل للطاعة والامتثال فى قوله {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [الآية 115] .
فقد ذكر فى هذه السورة الكثير من الأوامر والنواهى الكاشفة عن الطاعة والعصيان .
ثامناً : هدف السورة
ولأن هذه السورة نزلت فى السنوات الأخيرة للإسلام ، وقد اتضحت معالم الدولة الإسلامية ، وتوافر لها من أركان الدولة وعناصرها ثلاثة ، الأرض ، والشعب ، والحاكم ، فقد بقى لها القانون الذى يسير عليه ويلتزم شعبها به 00!! .
ولذلك : فقد أخذت هذه السورة فى تحقيق هذا الركن ، وهو قوانين هذه الدولة الجديدة وتوضيح الأحكام التى يلتزم بها هذا الشعب .
وقد عرضت هذه السورة أحكامها على بساط من التربية .
نعم 00 التربية لهذه الجماعة التى اختارها الله تعالى لتقوم على التزامها وطاعتها أركان هذا الدين ويشتد ساعد هذه الدولة .
نعم التربية(4) ، التى تشتد فى وسائلها إلى درجة الحدود .
والتى ترق إلى درجة اللمسات الوحدانية الرفيقة .
والتى تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة فىالكون وثنايا الحياة .
والهدف – بهذه التربية – واحد فى الشدة واللين ، وهو : تربية الضمائر ، واستجاشة المشاعر ، ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة ، حتى تشف وترق ، وتتصل بنور الله .
وتتداخل الآداب النفسية الفردية ، وآداب البيت والأسرة ، وآداب ، وآداب الجماعة والقيادة بوصفها نابعة كلها :
...واحد ، هو العقيدة فى الله متصلة كلها : بنور واحد . هو نور الله .
وهى فى صحيحها : نور وشفافية ، وإشراق وطهارة .
تربية عناصرها من مصدر النور الأول فى السماوات والأرض ، نور الله الذى أشرقت به الظلمات ، فى السماوات والأرض ، والقلوب ، والضمائر ، والنفوس ، والأزواج .
وبذلك الأسلوب : تكون الاستجابة فورية وعن قناعة كاملة لهذه الأحكام ، والقوانين التى ساهمت بها السورة فى بناء الفرد والأسرة والجماعة فى ظل هذه الدولة الجديدة .
تاسعاً : تقسيم آيات السورة موضوعيا
وتتألف السورة من ثلاثة أقسام .
يعمل كل قسم فيها بآياته البينات على تحقيق هذا الهدف وبنفس الأسلوب التربوى الرفيع .
القسم الأول : وتحتوى آياته البينات على عرض قضايا تشريعية وتوجيهية واجتماعية ، وهو عبارة عن 34 آية .
ويبدأ من الآية الأولى : {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} .
وينتهى بنهاية قوله تعالى {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين} [الآية 34] .
ونلاحظ : قوة الصلة بين بداية هذا المقطع ونهايته .
القسم الثانى :
وتحتوى آياته البينات على عرض قضايا فى موضوع العقيدة والكفر والإيمان والكون والحياة 0000000 .
ويبدأ من الآية (32) وهى قوله تعالى {الله نور السماوات والأرض مثل نوره 000} [الآية
وينتهى بنهاية قوله تعالى : {لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} [الآية 46] .
ونلاحظ كذلك : قوة الصلة بين بداية هذا المقطع وما فيه من نور وبين نهايته وما فيه من هداية .
القسم الثالث : وتحتوى آياته البينات على عرض مواقف وتوجيهات وبشارات وهو عبارة عن 18 آية .
ويبدأ من الآية 47 وهى قوله تعالى {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمينن} .
وينتهى بختام السورة {إلا إن لله ما فى السموات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم} [الآية 64] .
ونلاحظ ثالثاً : قوة الصلة بين بداية هذا القسم وما يشير إليه من نفاق وكذب على الله ورسوله ، وبين نهاية المقطع ، وما فيه من وعيد يفضح به 0000 فيه .
ويلاحظ أخيراً : أن الله عز وجل عرض فى هذه السورة ، من خلال هذه الأقسام الثلاثة – أمهات من القضايا الاجتماعية والسلوكية والإيمانية والأخلاقية .. ذات تأثير كبير على المجتمعات البشرية .
كما أنه للمرأة من ذلك خط كبير ؛ مما يتعين معه على الرجال والنساء أن يدرسوا هذا السورة .
هذا ..
وإن امرأ لا يخرج من دراسة هذه السورة وهدفها التربوى : برؤية الإعجاز واضحاً ، وبالإيمان كاملاً فى مقتضياته السلوكية والأدبية والإعتبارية ؛ حظه قليل(1) .
عاشراً : أبرز موضوعات السورة
1) عقوبة الزانى والزانية .
(2) عقوبة قاذفى المحصنات الغافلات المؤمنات .
(3) حكم قذف الزوجات .
(4) قصص الإفك ، وبراءة أم المؤمنين عائشة .
(5) آداب الزيارة .
(6) أمر المؤمنين بغضّ الأبصار وحفظ الفروج .
(7) نهى النساء عن إبداء زينتهن لغير بعولتهن إلخ .
(8) أمر المؤمنين بإنكاح الأيامى من الرجال والنساء ، فالمجتمع الإسلامى كأنه أسرة واحدة .
(9) أمر من لم تتوافر له وسائل النكاح لعدم وجود المال أو سواه بالعفة حتى يغنيه الله .
(10) بيان أن الأعمال الصالحة التى يعملها الكافرون فى الدنيا لا تجدى عنها نفعاً يوم القيامة ، بل تكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .
(11) الأدلة التى نصبها الله فى الأكوان علم بها ، وسفليها شاهدة بوحدانيته .
(12) المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم .
(13) وصف المؤمنين الصادقين .
(14) وعد الله عباده المؤمنين بأنه سيستخلفهم فى الأرض وينشر دينهم الذى ارتضى لهم .
(15) استئذان الموالى والأطفال فى أوقات ثلاثة إذا أرادوا الدخول على أهليهم.
(16) رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض فى الجهاد .
(17) لا حرج فى الأكل من بيوت الآباء والأمهات إلخ بلا إذن .
(18) نهى المؤمنين عن الانصراف من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانوا معه فى أمر جامع .
(19) إباحة إذنه لهم إن شاء حين الطلب .
(20) بيان أن مجلس الرسول مبجّل موقر وليس كمجلس المؤمنين بعضهم مع بعض(11) .
حادى عشر : بعض الدروس المستفادة
هذه السورة الكريمة : آياتها مليئة بالفوائد التربوية البديعة نقتطف منها .. ما يلى:
1) فى قوله تعالى :
{إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم} [النور 11] .
يقول الإمام ابن كثير : هذه الآيات العشر . كلها نزلت فى شأن عائشة ، أم المؤمنين ، رضى الله عنها ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحث ، والفرية ، التى غار الله تعالى لها ، ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه .
فأنزل براءتها ؛ صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم ، فى هذه الآيات .
وفى هذه الآية درس للأمة .. وهو :
رب ضارة نافعة .
فليس كل ما يحدث لنا ، ونحسبه ، بالأمر النافع لنا سواء فى أمور ديننا ، و أمور دنيانا .
كما أنه – ليس – بالضرورة – كل ما يحدث لنا ، ولا نحبه .. أمر ضار لنا فى أمور ديننا ، أو أمور دنيانا .
يقول سبحانه وتعالى {عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو خير لكم} [البقرة 216] .
ولذلك : يجب التسليم الكامل لله تعالى ، والرضى الواعى ... بكل ما يقع .. يحدث لنا من مقدورات الله عز و جل ، دون اعتراض ، أو تبرم ، أو سخط .. حيث أننا لا ندرى : ماذا تخبؤه لنا الأقدار ؟ ما دمنا لم نقصر فى مرضاة الله سبحانه وتعالى .
وحادثة الإفك : من هذا الباب .
{وكونه خيراً لهم – كما يقول الإمام الزمخشرى – أنهم اكتسبوا منه الثواب العظيم ؛ لأنه كان بلاءً ، ومحنة ظاهرة ، كما كانت فيه : فوائد ، وأحكام ، وآداب ، لا ... على متأملها(12) .
نعم .. كان بلاءً واختباراً : امتحن الله به قلوب الناس ، فمنهم من نجح فى إيمانه ، ... فى نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من نزغ الشيطان فى قلبه، وضل سواء السبيل ، ... أمره للمسلمين .
2) فى قوله تعالى :
{لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين(12)} .
أى : كذب ظاهر على أم المؤمنين .
والمعنى : هل ظننتم خيراً ، حين سمعتم هذا الإفك الذى أشيع على أم المؤمنين ، ونفيتموه ، وكذبتموه .
يعنى : ماكان ينبغى لكم أن تشكّوا لحظة فى كذب هذه الفرية خاصة وأنكم لا تعرفون إلا الخير كل الخير ، والطهر كل الطهر ، فى بيت النبوة ، وكان عليكم أن تسارعوا بإعلان كذب هذه الدعوة الآثمة .
وفى هذا درس للأمة كلها : أن يحسن المؤمنون والمؤمنات الظن بأنفسهم ، ولا يدعوا للشيطان مدخلاً لديهم ، ولا للظن السئ فى أنفسهم طريقاً إليهم .
ففى الحديث الشريف : (إياكم والظن ، فإن الظن : أكذب الحديث)(13) .
وفيه : (حسن الظن : من حسن العبادة)(14) .
وقد نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءاً ، حيث يقول {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} أى : لا تظنوا بأهل الخير سوءاً .. إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير} [الحجرات 12] .
وهذا : فيمن ظاهره الخير .
وأما من ظاهرة القبح ، والمجاهدة بالمعصية : فلا حرج أن يظن به السوء؛ حتى يُتَّقى شره . وتتم النجاة من خطره .
وآيات حادثة الإفك : تؤكد على هذا .
حيث يقول ربنا عز وجل :
{لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين} [النور 12] .
{ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور 16] .
نعم .. على من يسمع شيئاً على أخيه المسلم .. رجلاً كان أو امرأة : أن لا يظن به إلا خيراً .
كما أن عليه : أن لا يساهم فى نقل الشائعات فى المجتمع ولا يتكلم إلا بخير .
3) فى قوله تعالى :
{ولولا إذْ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [الآية 16] .
درس هاك ؛ وهو :
ضرورة حفظ اللسان .
وقد ركز الإسلام على هذا الأمر جيداً .
ففى القرآن الكريم :
يقول تعالى : {وعباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} [الفرقان 63] .
ويقول : {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً} [الفرقان 72] .
ويقول : {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين} [القصص 55] .
وفى الحديث الشريف ..
عن أبى هريرة .. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أتدرون ما الغيبة .. ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أرأيت إن كان فى أخى ما أقول .. ؟ قال : إن كان فيه ما تقول .. فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول .. فقد بهته(15) .
وأخرج الطبرانى بإسناد جيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من ذكر امرءاً بشئ ... فيه ، ليعيبه به : حبسه الله فى نار جهنم ، حتى يأتى بنفاد ما قال فيه) .
وكل هذا .. سموّ بالشخصية الإسلامية عن السفاسف ، والانزلاق إلى صغير الأمور وتوافهها ، وعن الولوغ فى الأخطاء ونتائجها .
كما أنه .. حماية المجتمع من تقطيع الروابط بين أفراده بسبب عدم حفظ .. عن قاله السوء ، أو عن القيل والقال .
ولذا يقول الشاعر :
إحفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
وسورة النور .. من خلال حديث الإلك : تؤكد على ذلك .
حيث يقول رب العزة {لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور 16] .
وعلى ذلك .
فينبغى أن يكون أدب المسلم : حفظ لسانه عن تتبع العورات والزلات ، وعن المساهمة فى نشر الشائعات .
ويقول تعالى :
{لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور 13] .
أى : علا جاءوا على ما يدعونه ببينة ، ومن المعلوم أن البينة على ما ادعوه من الكذب : هى أربعة شهود يعاينون هذا الكذب .
ولو جاؤا عليه بأربعة شهداء : لكانوا صادقين .
ولكن : لم يأتوا بأية شهود ؟ حيث إن دعواهم كذب محض ، وافتراء باطل.
وعلى هذا :
{فإذ لم يأتوا بالشهداء} . وبالفعل لم يأتوا .. !
فأولئك فى حكم الله هم الكاذبون فيما ادعوه .
ولهذا ...
فعلى كل مسلم .. أن لا يتفوه بهذه التهمة الشنيعة : إلا إذا كان يملك الدليل عليها ، وإلا فهو كاذب يستحق عقوبة القاذف . فى الدنيا ، وأمره فى الآخرة : مفوض إلى مولاه .
وهل يليق بمسلم أ، يهرف بما لا يعرق ، أو يتهم بلا بينة ..؟!!
كلا .. وألف كلا ..!
ويقول تعالى
{وإذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} [النور 15] .
أى : اذكروا حين كنتم تستقبلون هذا الكذب لا بأسماعكم ، ولا بعقولكم ، بل بألسنتكم فقط 00 يعنى : لا تفكرون فيه ، ولو فكرتم لعرفتم كذبه ، ولكذبتموه بعقولكم ، ولكن استقبلته ألسنتكم ، وأشاعته فوراً .
كما أنكم كنتم تقولون بأفواهكم ، ما لم تدركه عقولكم ، و{ما ليس لكم به علم} بالمرة أبداً .
كل هذا الكم الهائل من الأخطاء ..{وتحسبونه هيناً} أى لا إثم فيه ، بل شيئاً يسيراه ، تستهينون به ، وتساهمون فى نشره .
وهو فى واقع الأمر {عند الله عظيم} فى الإثم ، خطير فى الأثر ، شنيع فى الضرر .
وفى هذا درس لكل مسلم : أن يستعمل عقله ، وأن يحفظ لسانه إلا من قول صدق ، أو ذكر الله تعالى .
يقول سبحانه : {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} [الإسراء 36] .
وفى الصحيح : (وإن الرجل ، ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقى لها بالاً : يهوى بها فى نار جهنم(16)) .
4) فى قوله تعالى :
{ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور 16] .
أى : حينما سمعتم هذا الكلام البذئ الفاحش ، هلا ظننتم على الفور بهم خيراً ، وقلتم ما ينبغى لنا ولا لغيرنا أن نتكلم بهذا ..بل كان عليكم : أن تقولوا منزهين لساحة بيت النبى صلى الله عليه وسلم {سبحانك .. هذا بهتان عظيم} أى كذب فاحش ، لا يليق سماعه ، ولا ينبغى ذكره .
وعلى هذا .
فعلى المسلم : حينما يسمع قاله السوء على أخيه المسلم ..رجلاً كان أو امرأة .. أن ينزه ساحته ، وأن لا يظن به إلا خيراً ، وأن لا يتكلم إلا بخير.
حيث إن كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، كما فى الحديث الشريف .
بل الواجب عليه : أن يدافع عنه – بالحق – وأن يرد غيبته 00 فعن أبى الدرداء ، عن النبى صلى الله عليه وسلم ، قال : (من رد عن عرض أخيه : رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)(37) .
5) فى قوله تعالى :
{ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والآخرة لمسكم فى ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور 14] .
والخطاب هنا : لمن عنده إيمان ، يقبل الله منه بسببه التوبة 00 مثل : حسان ، ومسطح ، وحمنة .
أما من لا إيمان عنده كعبد الله بن أبى : فلا يدخل فى هذا الخطاب ، والتشريف الإلهى .
والمعنى : {ولولا فضل الله علكيم} – يا من أخطأتم بالوقوع فى المعصية – بأنواع النعم ، التى من جملتها : الإمهال للتوبة ، والرحمة فى الآخرة ، بالعفو عنكم ، والمغفرة ، المقدرين لكم فى علم الله تعالى .
لولا هذا : لمسكم بسبب خوضكم وإفاضتكم فى الإفك {عذاب عظيم} يهون بجانبه التوبيخ لكم ، والعقاب الذى وقع عليكم فى الدنيا بسب ما وقعتم فيه من الكذب .
وفى هذا : لفت نظر لنا أن نتعرض لفضل الله علينا ، ورحمته بنا ..عن طريق الطاعات : حيث إنه من المناسب : التحلى بحسن الأجب ، وكثير الطاعة ، مع صاحب الفضل .
وذلك : لكى لا تقعوا فى زلل مشابه ، وإذا وقعتم : أن تسارعوا بالتوبة إلى تعالى .
وهذا ..يدفع المسلم إلى البحث فى شرع الله تعالى عن الحكم الأسرار ، ...المنافع والعظات ، التى تعينه على طاعة الله ، والخضوع لمشيئته .
مع يقينه الكامل : أن الله تبارك وتعالى {عليم} بما يصلح خلقه ، وينفعها {حكيم} فيما يشرعه لهم ، ويطالبهم به .
ويقول : {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم} [النور 20].
أى : لولا فضل الله عليكم – يا من أخطأتم بالوقوع فى هذه المعصية – بأنواع النعم ، التى من جملتها ، الإمهال للتوبة ، والرحمة فى الآخرة ، بالعفو عنكم والمغفرة ، المقدرين لكم فى علم الله تعالى : لكان أمر آخر ، لا تحمد عقباه.
ولكنه تعالى {رؤوف} بعباده {رحيم} بهم ، فتاب على من تاب إليه فى هذه القضية ، وطهر من طهر منهم بالحدّ الذى أقيم عليه .
6) فى قوله تعالى :
{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور 19] .
أى : إن الذين لا يحبون أن تشيع الفاحشة ، إخباراً عنها ، أو ممارسة لها {فى الذين آمنوا} ومجتماعاتهم : {لهم عذاب أليم فى الدنيا} بإقامة الحد عليهم ، وهو حد القذف {والآخرة} كذلك ، لهم فيها عذاب النار ، إن لم يتوبوا .
ويفهم من هذه الآية : أن من يحب إشاعة الفاحشة ، فضلاً عمن يشيعها ، أو يأمر بإشاعتها ، أو يساعد على ذلك ، أو يرضى – على الأقل – بإشاعتها {فى الذين آمنوا} وبين صفوفهم ، وفى بيوتهم ، وشوارعهم ، ومنتدياتهم ، ومجتمعاتهم، بنفسه ، أو بوسيلة من الوسائل : فجرمة كبير ، وعقابه عند الله شديد.
وكفى بهذا تخويفاً ، وكفى بهذا تحذيراً ..!!
كما يفهم : بيان عاقبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى المجتمع المسلم ، ويرمون المحصنات الغافلات بما هن منه بريئات من قوله تعالى :
{إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين} .
وهذه الآيات الثلاث ..تبين : أن الذين يرمون بالفاحشة ، النساء المؤمنات ، العفيفات ، البعيدات عن كل فتنة وريبة ، الغافلات ..يعنى : "السليمات الصدور ، النقيات القلوب ، اللائى .. ليس فيهن دهاء ولا مكر"(18).
الذين يرمون هؤلاء بالفاحشة زوراً وبهتاناً : لهم من العقوبات .. ثلاثة أشياء(19) .
إحداها : {لعنوا فى الدنيا والآخرة} .. أى : يكونون ملعونين فى الدنيا والآخرة ، مطرودين من رحمة الله تعالى .
وهو : وعيد شديد ، إن لم يتوبوا .
حيث إن من كان ملعوناً : فهو ملعون فى الآخرة ، ومن كان ملعوناً فى الآخرة : فإنه لا يكون من أهل الجنة .
ثانيها : {ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} .
أى : لهم عذاب شديد ، يوم القيامة ، يوم ينكرون ما كانوا يعملون ، فتشهد عليهم أعضاؤهم {ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} فلا يستطيعون لها رداً ولا تكذيباً ، فيقولون {لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} [فصلت 21] .
ثالثها : {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} أى : يعطيهم جزاءهم العادل ، الذى يستحقونه ، كاملاً غير منقوص ، وهو جزاء أليم ، بسبب ما اقترفوه ، من : إشاعة الفاحشة فى المجتمع المسلم ، ورميهم المؤمنات العفيفات بالفاحشة .
7) فى قوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ... } [الآية
درس هام .. وهو :
محاربة الشائعات .
حيث إن معظم الشائعات : لا تكون إلا فى الأمور السيئة ، وهى التى تنشر الناس بسرعة البرق .
وقد تكون مبينة على ظنون خاطئة تخالف الحقيقة ، كما قد تكون 000 لمبادئ ضارة هدامة ، أو هادفة لنشر رذيلة فى المجتمع ، أو إشاعة فاحشة بين أفراده .
ولذلك : يحرص الإسلام على وأدها فى مهدها ، والحيلولة دون نشرها وذيوعها وهذا واضح فى آيات حادثة الإفك .
حيث يقول تعالى {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا ليهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النور 19] .
وهو سبحانه .. إذ يهددهم فى هذه الآية : يعلمهم كيف يقطعون دابرها.
وذلك : فى قوله تعالى {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خير وقالوا هذا إفك مبين} [النور 12] .
وفى قوله عز وجل {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور 16] .
وأخرج الإمام أحمد فى مسنده ، عن النبى صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (لا تؤذوا عباد الله ، ولا تعيروهم ، ولا تطلبوا عوراتهم . فإن من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته ، حتى يفضحه فى بيته) .
نعم ..
إن المجتمع المسلم .. هو مجتمع النظافة والطهارة فى أجلى معانيها.
فالحذر .. كل الحذر : أن نلوثه بإشاعة مغرضة ، أو فاحشة مهلكة .
الدرس الخامس : وجوب الحذر من الشيطان وأعوانه .
وذلك : لخطورة الشيطان وأعوانه على أولياء الله تعالى.
ومن هنا : أمر المولى عز وجل 00 بالحيطة الشديدة منه ، والتنبيه الدائم له ، واليقظة الكاملة لمكره ودهائه ، واتخاذه عدواً ، ينبغى الاستعداد لمواجهته والانتصار عليه .
إذ يقول سبحانه {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوا عدواً(1)} .
ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان : يجرى من ابن آدم مجرى الدم)(2) ، فتنة، وغواية , وإضلالاً .
ولهذا .. يجب على أولياء الله تعالى ، اليقظة الكاملة ، والاستعداد الدؤب الواعى لهذا العدو ، القديم الجديد ، الذى حذر المولى منه ، وأمر بمعاداته .
وعلى ورثة الأنبياء – من العلماء – وهم أولى الناس بهذه اليقظة ، وأحق الناس لهذا الاستعداد ، وأعلمهم ، وأقواهم على هذا العداء ، والانتصار فيه – تبصير الناس بهذا العهدو وسهامه ووسائله ، وتحذيرهم – دائماً – منها(2) .
وقد نبهتنا آيات حادثة الإفك إلى هذ الدرس المهم .
حيث يقول تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [النور 21] .
فهل انتهينا .. ؟
وهل تستجيب لهذا النهى والتحذير ..؟
8) فى قوله تعالى
{فلا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ..} [الآية 22] .
بيان الموقف من عداوات الأقارب(21)
وعداوات الأقارب : آفة اجتماعية قديمة ، مستمرة يصوها الشاعر فى قوله:
يقولون عز فى الأقارب إن دنت وما العز إلا فى فرق الأقارب
تراهم جميعاً بين حاسد نعمة وأخى بعض وآخر غائب
ومن كثرة هذه العداوات وشيوعها : يدور على الألسنة قولهم : "الأب : رب ، والعم : غمّ ، والأخ : فخ ، والولد : كمد ، والأقارب : عقارب" .
كما يقول بعضهم :
إن الأقارب كالعقارب أو أشد من العقارب
والواقع الحياتى : يقدم لنا فى كل حين ما يؤكد هذا ، وأكثر منه .
ولكن : هل ترك الإسلام هذه المشكلة دون علاج لها ، أو إرشاد لعلاجها 00 ؟
ولكن : هل ترك الإسلام هذه المشلكة دون علاج لها ، أو إرشاد لعلاجها ..؟
كلا .. وألف كلا .
لقد اهتم الإسلام بها : اهتماماً كبيراً ، وأولاها عناية فائقة ، ونقدم – وإن كان المجال لا يتسع لغير الإيجاز – مثالين على هذا العلاج .
ففى القرآن الكريم : موقف سيدنا يوسف عليه السلام من إخوته الذين حسدوه ، وأذوه ، وألقوه فى الجب صغيراً ، لا حول له ولا قوة ، وهو موقف : مؤذى . مخزى ، لا ينسى أبداً .
فلما مكن الله بقدرته ومشيئته يوسف عليه السلام ، فى البلاد ، والعباد . وأصبح كبير مصر ، وساقت الإقدار إليه أخوته ، وأصبحوا فى قبضته 00 ماذا فعل معهم 00 ؟
هل عاقبهم ، هل عاداهم ، هل انتقم منهم 00 ؟
لا 00 وألف لا 00 !!
إنما : عفا عنهم ، وقال لهم {قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} [يوسف 92] .
وفى السنة النبوية : لما عاد محمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة 00 بعد أن آذاه فيها قومه وأقاربه ، وعذبوه ، وأخرجوه منها – ودخلها قائداً ، فاتحاً ، منتصراً ، وأصبح الذين آذوه بالأمس ، بين يديه ، ورهن إشارته 00 ماذا فعل 00 ؟
هل عاقبهم ، هل انتقم منهم 00 ؟
كلا 00 وألف كلا 00!!
إنما عفا عنهم ، وقال لهم "اذهبوا فأنتم الطلقاء"(22) .
وهذه : هى شريعة الحب ، شريعة الرحمة ، شريعة الترابط ، شريعة السلام .
وهو نفسه : ما دعت إليه آيات حادثة الإفك .
حيث نزل فى أبى بكر رضى الله عنه 00 لما أقسم أن لا ينفق على قريبه "مسطح" الذى وقع مع وقع فى خطيئة الإفك 00 قوله تعالى : {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} [النور 22] .
وكان هذا : مثالاً عملياً تطبيقياً على كيفية التصرف مع الأقارب المعادين 00 وهو : الإحسان إليهم ، والاستمرار فى مودتهم ، طاعة الله تعالى ، وطلباً لعفوه وغفرانه .
9) فى قوله تعالى
{أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} [النور 26] .
عناية الله تعالى بالنبى صلى الله عليه وسلم ، ودفاعه عن حرمانه ، وتأكيد طهارته وأهل بيته ، وتكريم أزواجه صلى الله عليه وسلم .
وهو إعلاء لشأن النبى صلى الله عليه وسلم ، ورداً 00 فى ذات الوقت 00 لكيد المنافقين فى نحورهم ، وإبطال سعيهم وإفسادهم . ولذلك يقول بعض الفقهاء(8) : "من سب عائشة . فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن : قتل ؛ فإن أهل الإفلك رموا عائشة فبرأها الله تعالى .
فكل من سبها بما برأها الله منه : فهو مكذب لله ومن كذب الله : فهو كافر.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما : "من أذنب ذنباً ، ثم تاب منه : قبلت توبته ، إلا من خاض فى أمر عائشة" .
وهذا منه : تعظيم ومبالغة فى أمر الإفك . ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة:
برأ يوسف عليه السلام : بشاهد من أهلها .
وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه : بالحجر الذى ذهب بثوبه .
ومريم رضى الله عنها : بإنطاق ولدها .
وعائشة رضى الله عنها : بهذه الآى العظام ، فى كتابه المعجز ، المتلو على وجه الدهر .
فانظر : كم بينها وبين تبرئة أولئك 00!!
وما ذلك : إلا لإظهار علو منزلة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبيان رفعة مقامه(10) .
10) فى قوله تعالى :
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم 00 } [الآية
{وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن 00} [الآية
قال الإمام ابن القيم رحمه الله فى "الجواب الشافى" : فى غض البصر عدة منافع : أحدها – امتثال أمر الله الذى هو عغاية سعادة العبد فى معاشمه ومعاده . وليس 0000 دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى . وما سعد من سعد فى الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامر ربه . وما شقى من شقى فى الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثانى – أنه يمنع من رسول أثر السهم المسموم ، الذى لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه .
الثالث – أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعته على الله . فإن إطلاق البصر يفرّق ..ويشتته ويبعده من الله . وليس على العبد شئ أضر من إطلاق البصر. فإنه يوقع الوحى بين العبد وبين ربه .
الرابع – أنه يقوى القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
الخامس – أنه يكسب القلب نوراً . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه النور عقيب الأمر بغض البصر ، فقال {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} ثم قال إثر ذلك {الله نور السموات والأرض} أى مثل نوره فى قلب المؤمن ، الذى امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات من كل جانب . كما أنه إذا ظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كان مكان . 000من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة ، و000 000 الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذى فى القلب . فإذا فقد ذلك النور بقى 000 كالأعمى الذى يجرس فى حنادس الظلام .
السادس – أنه يورث الفراصة الصادقة التى يميز بها بين المحق والبطل والصادق والكاذب . 000 شاء بن شجاع الكرمانىّ يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، 0000 بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحرام – لم تخطئ 000
وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزى السيد على عمله بما هو من 000 عمله . ومن ترك شيئاً الله عوضه الله خيراً منه . فإذا غض بصره من محارم الله ، عوضه 000 بأن يطلق نور بصيرته عوضاً عن حسبه بصره الله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، 000 الصادقة المصيبة ، التى إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من 0000 الذى هو ضد البصيرة ، فقال تعالى {لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون} [الحجر 72] فوصفهم السكرة التى هى فساد العقل ، والعمه الذى هو فساد البصيرة . فالتعلق بالصور يوجب إفساد 000 ، وعمه البصيرة بسكر القلب ، كما قال القائل:
سُكران : سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاضة من به سكران !
وقال الآخر :
قالوا : جُننت بمن تهوى فقلت لهم : العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون فى الحين
السابع – أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة الحجة ، سلطان القدرة والقوة . كما فى الأثر "والذى يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله" . 000 هذا تجده فى المتبع هواه ، من ذل النفس ورضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال . وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبجانه العز قرين طاعته ، والذل قرين معصيته ، فقال تعالى {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون 8] وقال تعالى {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران 139] والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن . وقال تعالى {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر 10] أى من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره . من الكلم الطيب . والعمل الصالح . وفى دعاء القنوت "إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت" ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته . ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته .
الثامن – أنه يسدّ على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب ، أسرع من نفوذ الهوى فى المكان الخالى . فيمثل له صورة المنظور إليه ، ويزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب . ثم بعده ويمنيه . ويقد على القلب نار الشهوة ، ويلقى عليه حطب المعاصى . التى لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب فى اللهب . فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التى يجد فيها وهج النار . وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو فى وسطها كالمشاة فى وسط التنور . ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصورة المحرمة ، أن جعل لهم فى البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم . كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى المنام فى الحديث المتفق على صحته .
التاسع – أنه يفرغ القلب للفكرة فى مصالحه والاشتغال بها . وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتنفرط عليه أموره ويقع فى اتباع هواه وفى الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} [الكهف 28] وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة يحسبه .
العاشر – أن بين العين والقلب منفذاً وطريقاً يوجب انفصال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك فى جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التى هى محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابه إلهي والأنس به والسرور بقربة فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى .
11) فى قوله تعالى :
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد أمنهم خوفاً يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون * لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} .
قال القرطبى : قال أبو العالية "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سنين ، بعد ما أوحى إليه . خالقاً وهو وأصحابه يدعون إلى الله سراً وجهراً .
ثم أمر بالهجرة إلى المدينة 00 وكانوا فيها : خائفين ، يصبحون ويمسون فى السلاح .
فقال رجل : يا رسول الله 00!! أما يأتى علينا يوم ، نأمن فيه ، ونضع السلاح 00؟
فقال عليه الصلاة والسلام : (لا تلبثون إلا يسيراً ، حتى يجلس الرجل منكم، فى الملأ العظيم ، ليس عليه حديدة) .
ونزلت فى الآية .
وأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب 00 فوضعوا السلاح ، (وأمنوا)(9) .
هذا 00
ولأن العبرة – كما يقول العلماء – بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب 00!!
ولأن لفظ الآية عام 00!!
فإن هذا الوعد ، وهذه البشارة : لهما صفة العموم .
فهو وعد لكل من تحققت منه مطالب الآية 00 فى أى عصر ، وأى مصر.
وهى بشارة إلهية 00 باقية إلى يوم القيامة .
وهذه الآيات الثلاث الكريمة 00 تضمن تسعة أشياء(26) .
ثلاثة منها : مطلوبة .
وثلاثة منها : موعودة .
وثلاثة منها : مرفوضة .
فإذا ما حققت الأمة ؛ الأمور الثلاثة المطلوبة ، ونجت وتخلصت من الثلاثة المرفوضة : نالت الثلاثة الموعودة .
وتوضيح هذا الكلام – باختصار شديد – كالتالى :
أولاً : تطالب الآية المؤمنين : بثلاثة أشياء 000 هى :
1- الإيمان {وعد الله الذين آمنوا منكم} .
2- العمل الصالح {00 وعملوا الصالحات} .
3- العبادة {00 يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً} .
ثانياً : تعد المؤمنين – بعد تحقق المطالب الثلاثة – بثلاثة أشياء 00 هى :
1- أن يكونوا : أئمة الناس ، والولاة عليهم 00 يعنى : زعماء العالم {ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} .
2- التمكين للإسلام {وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم} .
3- توافر الأمن لهم ولبلادهم من بعد خوفهم {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} .
ثالثاً : تحذر المؤمنين ، وترفض منهم وفيهم 00 ثلاثة أشياء 00 هى :
1- خطر العصاة {00 ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} .
2-خطر الغُرور 000{وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} .
3- خطر الحرب النفسية {لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} .
هذه الأشياء التسعة : فهمها المسلمون الأوائل .
فحققوا : ما طلب منهم .
وتجنبوا : ما حذروا منه .
فنالوا : ما وعدوا به .
نعم 00 حقق الله لهم وعده .
وقد فعله تبارك وتعالى – كما يقول ابن كثير – ولله الحمد والمنة(27) .
"فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخبير والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها .
وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام .
وهاداه مالك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس ، وملوك عمان والنجاشى ملك الحبشة .
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله ما عنده من الكرامة.
قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلم شعث بما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس بصحبة خالد بن الوليد رضى الله عنه ففتحوا طرفاً منها وقتلوا خلقاً من أهلها . وجيشاً آخر بصحبة أبى عبيدة رضى الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام ، وثالثاً بصحبة عمرو بن العاص رضى الله عنه إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامى فى أيامه بصرى ودمشق ومخالفيهما من بلاد حوران وما والاها .
وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة .
ومن على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مصله فى قوة سيرته وكمال عدله . وتم فى أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس . وكسر كسرى وأهانة غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقصر قيصر ، وانتزع 000 عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية ، وأنفق أموالهما فى سبيل الله ، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة .
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت المماليك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص ، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلى البحر المحيط ومن ناحية الشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية ، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً ، وخذل الله ملكهنم الأعظم خاقان ، وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضى الله عنه وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن" .
والآية فى نفس الوقت : وعد لجميع المسلمين من الله سبحانه وتعالى ، بأن:
يجعل منهم خلفاء الأرض ، والقادة عليها ، والزعماء لشعوبها .
ويمكلن لهم دينهم الذى ارتضى لهم ، فينتشر نوره ، ويعم هديه ، وتسود مبادؤه ، وتهيمن أحكامه وتشريعاته .
ويبدل خوفهم أمناً . أمناً فى كل شئ ، فى الدين ، فى النفس ، فى المال ، فى الأولاد ، فى الوطن ، فى 000 فى 00 إلخ.
أملاً فى : الخروج من هذه الأزمات التى نعانى منها : نحن مسلمى اليوم !! والتخلص من أوزار هذا التخلف المهين ، والانحطاط المشين 00!! والدخول فى سباق الأمم ، فتنهض ؛ فتتولى زمام القيادة العالمية ، إلى الهداية للتى هى أقوم 00!!
وفى ضوء ما تقدم : تعالى معى أيها القارئ الكريم 00 نقرأ هذه الآيات الكريمة – مرة أخرى – قراءة تفسيرية .
يقول تعالى : {وعد الله} وهذه بشارة إلهية فى صورة وعد منه سبحانه ، ووعد الله لا يتخلف {ألا إن وعد الله حق} [يونس 55] .
ولكن 00 وعد من 00؟
وعد 00 {الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات} حال تحليهم بعبادته – وحده – سبحانه .
يعنى : وعد الذين اتصفوا بثلاث صفات 00 هى :
أ- الإيمان 00 بمعنى الثقة واليقين الكامل فى هذا الدين .
ب- والعمل الصالح 00 وهو : كل ما يسعد العباد ، ويصلح البلاد ، ويكون فى إطار ما شرع الله .
جـ- والعبادة 00 بمفهومها الشامل ، الذى ينبئ عنه قوله تعالى {وما خلقت الجن الإنس إلا ليعبدون} [الذاريات 56] .
وعد هؤلاء 00 بماذا 00 ؟
1- {ليستخلفنهم فى الأرض} أى : يجعلهم خلفاء فيها ، وقادة لأهلها ، ورواداً فى نهضتها ، وإسعاد أهلها .
{كما استخلف الذين من قبلهم} أى : ليستخلفنهم استخلافاً كائناً ، كاستخلافه الذين من قبلهم . من الأمم المؤمنة ، الذين أسكنهم الله تعالى فى الأرض ، بعد إهلاك أعدائهم ، من الكفرة الظالمين(8) .
2- {وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم} أى : الإسلام .
والمعنى : ليجعلن دينهم ثابتاً مقرراً ، بأن يعلى – سبحانه – شأنه ، ويقوى بتأييده – تعالى – أركانه ، ويعظم أهله فى نفوس أعدائهم – الذين يستغرقون النهار والليل فى التدبير لإطفاء أنواره ، ويستنهضون خيلهم ورجلهم للتوصل إلى إخفاء آثاره – فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريق المسلمين عنه ، ولا تكاد تحدثهم أنفسهم للحيلولة بينهم وبين مبادئه والعمل بها .
وقيل المعنى : ليجعله مقرراً ثابتاً ، بحيث يستمر المسلمون على العمل بأحكامه ، ويرجعون إليه فى كل ما يأتون ، وما يذرون .
ولا مانع – عندى – من إرادة المعنيين .
3- {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} أى : يرزقهم الأمن والأمان فى الدنيا 00 على أنفسهم ، وأهليهم ، وأوطائهم ، ومبادئهم 00 إلخ ، وذلك بعد خوفهم – فى الدنيا – من أعدائهم فى الدين ، بمقتضى الطبيعة البشرية .
ثم يقول تعالى : {يعبدوننى} أى : يتحقق لهم ما ذكر ، حال كونهم . يتصفون بهذه الصفة الثالثة : إلى جانب الصفتين السابقتين ، وهما : الإيمان ، والعمل الصالح .
{لا يشركون بى شيئاً} أى : لا يعبدون إلهاً غيرى ، وقيل : لا يراؤن بعبادتى ، وقيل : لا يخافون غيرى(9) .
وبعد ذلك : يذكر الله تعالى 00 المحاذير الثلاثة ، التى ينبه عباده عليها وينفرهم عنها ، ويبعدهم من مخاطرها . وهى(26) .
1- خطر العصاة فى الصف الإسلامى .
يقول تعالى {00 ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} والكفر هنا : من الكفران ، وليس من الكفر الذى هو ضد الإيمان(8) .
أى : أنه بمعناه اللغوى : وهو ستر الشئ .
وعنى بالكافر : الساتر للحق .
ولذلك : صار فاسقاً .
وعلى ذلك 00 فمن جحد حق الله : فقد فسق عن أمر ربه بظلمه(28) .
أى : ومن جحد وأنكر وعد الله هذا : فقد فسق عن أمر ربه .
ومن فقد الثقة فى هذا الدين ، فقد فسق فى أمر ربه .
ومن انغلق فى فهمه للأعمال الصالحة : فقد فسق فى أمر ربه .
ومن انحرف بالعبادة عن مفهومها الواسع الشامل : فقد فسق عن أمر ربه .
ومن لم يصدق وعد الله بالاستخلاف للمؤمنين فى الأرض : فقد فسق عن أمر ربه .
ومن لم يصدق وعد الله بتمكين الدين الإسلامى : فقد فسق عن أمر ربه .
ومن لم يصدق وعد الله بتبديل المؤمنين – من بعد خوفهم – أمناً : فقد فسق عن أمر ربه .
ومن يزرع الشك فى نفوس المؤمنين بهذ الوعد : فقد فسق عن أمر ربه .
ولأن هؤلاء : مصدر خطر ، ومنبع شقاء ، ودبيب عجز وهزيمة ، وشر مستطير ، ومرض عقال خطير 00 بين أفراد الجماعة المؤمنة : فقد بين المولى – حرصاً منه على أوليائه – هذه الفئة المنهزمة نفسياً ، والتى تحاول زرع الهزيمة حيثما وجدت ، كشفاً لدورها ، وشلاً لفاعليتها ، حتى لا تعوق الأمة عن مسيرة النجاح والصعود لنهضتها وتحقيق آمالها .
2- خطر الغرور ، أن يظهر من الأمة أو أفرادها ، حال الاتصاف بالمطلوب ، أو بعد تحقق الموعود .
يقول تعالى : {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} أى : التزموا بشرع الله ، ولا تحيدوا عنه ، وأخلصوا النية والعمل لله وحده ، ولا تظنوا أن ما بكم من نعمة ، هو من عند أنفسكم ، بل هو من عند الله {وما بكم من نعمة فمن الله} [النحل 53] .
وأطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما جاء به ، وبيّنه ، وقولوا له ولتعاليمه {سمعنا وأطعنا} [النور 51] ، ولا تغتروا أبداً ، ولا تقولوا مثل الذين قالوا {سمعنا وعصينا} [النور 46] .
أى : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطيعوا الرسول 00 راجين أن ترحموا(29) .
وهذا 00 ما ينبغى أن يكون عليه المسلمون ، مهما بلغوا من درجات الرقى، والتمكين ، والأمن ، صيانة لهم من الهدم ، وللبشرية من الضياع .
3- خطر الحرب النفسية
حيث يقول تعالى : {ولا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير} .
أى : لا تظنن أيها المؤمن أن الكفار أعداءك 00 يهربون من الله ، وينجون بهروبهم – من عذابه أبداً .
والحرب النفسية : أخطر كثيراً على الأمم والجيوش من حرب القنابل والدبابات ، وأسرع كثيراً فى الوصول بمن تصوب إليه الهزيمة من الصواريخ والنفاثات .
إذ هى توجه مباشرة إلى الإرادة فى الإنسان والتصميم لديه على بلوغ هدفه؛ فتفتك بعزيمته ، وتشل فاعلية رغبته ، وتحيله كافراً بمبادئه التى كان يدافع عنها ، ويحارب من أجلها ، أو على الأقل شاكاً متشككاً فيها ، وفى صلاحيتها .
وهنا : يسهل تخريبه ، وتحطيمه ، وتدميره .
بينما توجه القنابل والدبابات والصواريخ والنفاثات وغير ذلك من أعتى الأسلحة : إلى جسم الإنسان ، الذى قد تصيبه ، وقد لا تصيبه ، فإن أصابته : غذيت المبادئ التى أصيب من أجلها بدمه ، ونمت وترعرت فيمن بعده من أتباعه، وإن لم تصبه : زاده نجاحه فى النجاة من شرها والتغلب عليها إصراراً على مبادئه ودفاعاً عنها .
ومن هنا : كان حرص المولى سبحانه وتعالى على حماية أوليائه من أخطار هذه الحرب النفسية ، التى توجه إليهم من أعدائهم .
وهى : حرب ، دائبة ، مستمرة ، نشطة ، متجددة ، متلوثة ، مؤثرة – كذلك – فى كثير من النفوس .
ولهذا : كان الاهتمام والتركيز الشديد من القرآن الكريم على مواجهة هذه الحرب .
وتتمثل هذه المواجهة فى عدة أمور(26) .
الأول : تجحيم هؤلاء الأعداء ، والتهوين من شأنهم .
الثانى : بيان أن الغلبة لأولاء الرحمن .
الثالث : التأكيد على أن النصر من عند الله .
الرابع : البشارة بسوء مآل ونهاية الأعداء فى الدنيا والآخرة .
وكلها تعطى الثقة الكاملة للمؤمنين ، وتزرع فى نفوسهم الحقيقية ، وتبعد عنهم شح الحرب النفسية ، مهما تجددت وتلونت أساليب هذه الحرب .
وهذا واضح غاية الوضوح فى قوله تعالى :
{لا تحسبن الذين كفروا معجزين فى الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير}.
ومن الذى يملك إبطال إعجازهم وقوتهم وجبروتهم؟
إنه بالطبع من يملك أن يجعل مأواهم النار!!
وهو الله سبحانه وتعالى .
ومن هنا :
1- فالذين كفروا ليسوا بغالبين .
2- والذين آمنوا هم الغالبون .
3- وأن تعجيز الكافرين ، وغلبة المؤمنين : من الله سبحانه وتعالى ، ولا يملك ذلك – فى الخالدين – إلا هو .
4- وأن مأوى الكافرين النار .
وهى بشارة بالسوء لهم ، تتضمن البشارة الحسنى للمؤمنين ، الذين مأواهم – بفضل الله – الجنة .
وهى : آية عظيمة ، كافية فى رفع الهزيمة عن نفوس المؤمنين ، حتى لا تصيبهم ، بشتى الوسائل ، وبعديد الألوان .
وهى – كذلك – آية عظيمة كافية فى فتح أبواب النصر ، والغلبة ، والتفوق على أعداء الله سبحانه وتعالى ، أعداء المسلمن ، فى شتى مجالات التفوق والاستعلاء .
ومضمون هذه الآية واضح فى القرآن الكريم غاية الوضوح ، والتركيز عليه بالغ الاهتمام فى نقاطه الأربع .
قال الأستاذ المودودى فى تفسيره لسورة النور :
"هذا وعد من الله تعالى للمسلمين ، بأنه سيجعلهم خلفاء الأرض – أى أئمة الناس وقادتهم – والمقصود من الآية – كما أشرنا إليه من قبل – تنبيه المنافقين على أن هذا الوعد الذى قد قطعه الله تبارك وتعالى للمسلمين ، ليس الخطاب فيه لكل من ينتمى إلى الإسلام ولو إسماً ، بل إنما هو المسلمين الذى هم صادقون فى إيمانهم ، وصالحون باعتبار أخلاقهم وأعمالهم ، ومتبعون لدين الله الذى قد ارتضاه لهم ، وملتزمون لعبادته وعبوديته وحده ، وغير مشركين به شيئاً ، وأما الذين ليسوا على تلك الصفات ، وإنما يدّعون الإيمان بألسنتهم ، فلا يستأهلون هذا الوعد ؛ لأنه لم يقطع لهم ، فلا يرجون أن ينالوا نصيباً منه .
وأمر آخر يجدر بالذكر فى هذا المقام ، هو أن هذا الوعد وإن كان شاملاً للمسلمين فى جميع الأزمان ، ولكن الخطاب المباشر فيه لأولئك المسلمين الذين كانوا فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . وحقاً إن المسلمين كانوا فى حالة شديدة من الخوف أيام نزول هذا الوعد ، حتى كانوا لا يضعون سلاحهم ، وما كان دين الإسلام قد تمكن لهم ، حتى ولا فى أرض الحجاز ، ولكن هذه الحالة ما تبدلت فى عدة سنوات بحالة الأمن والرفاهية والطمأنينة فحسب ، بل تجاوز فيها الإسلام حدود جزيرة العرب ، وانتشر فى أكبر جزء من إفريقية وآسيا ، ولم ترسخ جذوره فى منبت أرومته فقط ، بل فى أكثر أقطار الأرض .
فهذا شاهد تاريخى بأن الله تعالى قد أنجز وعده فى عهد أبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم .
ب- إن هذا الوعد قد تحقق لهذه الأمة ، وهو مستمر لكل من تحقق بمواصفات الاستخلاف ، لما ثبت فى الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، إلى يوم القيامة . وفى رواية : حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك . وفى رواية – حتى يقاتلون الدجال – وفى رواية – حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون) قال ابن كثير : وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينهما .
جـ- إن الاستخلاف والتمكين والأمن لا تكون إلا بعد خوف ، واستمرار على الحق ، واستمرار على الإيمان والعمل الصالح ، حتى يأتى النصر ، والذى نلاحظه أن كثيراً من المسلمين إذا جاء الخوف تركوا وانعزلوا ، وأن كثيرين ليسوا متحققين بشروط الاستخلاف ، ومن ثم نرى أن النصر يبطئ على حملة دعوة الله ، والرجاء من أهل الإسلام أن يتحققوا ويتسمروا .
د- فى هذه الآية معجزة من معجزات القرآن ؛ إذ أنها تحدثت عن غيب ووقع .
وها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأله الإيمان به وبرسوله ، والقيام بشكره على الوجه الذى يرضيه عنا
ثانى عشر : مصادر المفاتيح و هوامش البحث
1- أنظر : السخاوى / جمال القراء 00/37
الفيروزابادى / بصائر ذوى التمييز 1/334
القرطبى / الجامع لأحكام القرآن (تفسير سورة النور)
القاسمى / محاسن التأويل ( " " " )
2- ذكرت هذه المادة فى هذه السورة 7 مرات فى الآيتان [35 ، 40] .
3- القاسمى (مصدر سابق)
4- سيد قطب / فى ظلال القرآن(سورة النور – تفسير الآية 35)
5- أنظر : مكى بن أبى طالب / التبصرة ص 272
السخاوى / جمال القراء 1/209
الفيروزابادى (مصدر سابق)
الآلوس / روح المعانى (تفسير سورة النور)
نثر المرجان 4/589
6- المودودى / تفسير سورة النور ص 7
7-
8- الآلوس / روح المعانى (تفسير سورة النور)
9- القرطبى (مصدر سابق)
10- سعيد حوى / الأساس ( " " " )
11- المراغى / تفسير المراغى ( " " " )
12- الزمخشرى / الكشاف (تفسير النور00الآية11)
13- رواه : البخارى 00 ك النكاح ، "لا يخطب على خطبة أخيه" .
14- رواه : أبو داود 00 ك الأدب ، باب "فى حسن الظن" .
15- رواه : مسلم 00 ك البر ، باب "تحريم الغيبة ، وأبو داود 00 ك الأدب ، باب "فى الغيبة" ، الترمذى 00 ك البر .
16- رواه : البخارى 00 ك الرقاق ، باب "حفظ اللسان" .
17- رواه : مسلم 00 ك البر ، باب "تحريم ظلم المسلم" .
18- الفخر الرازى / التفسير الكبير (النور 00 تفسير الآية 23)
19- الزمشخرى (مصدر سابق) ( " " " )
20- د/عبد الحى الفرماوى / المسلمون بين الأزمة والنهضة ص33
21- أنظر : د/عبد الحى الفرماوى زاد الدعاة ط بحث : صلة الأرحام
22- ابن هشام / السيرة النبوية 2/214
23- أنظر : القاسمى / محاسن التأويل (تفسير سورة النور)
24- رواه : أبو داود 00 ك 000 ، باب "القتوت فى الوتر" .
25- وهو حديث سمرة بن جنوب 00 رواه البخارى 00 ك التعبير ، باب "000 الرؤيا بعد صلاة الصبح" .
26- أنظر ذلك بتوسع فى كتابنا "المسلمون بين الأزمة والنهضة" الطبعة الخامسة".
27- ابن كثير / تفسير القرآن العظيم (النور:تفسير الآية 55)
28- الأصفهانى / المفردات (كتاب : الكاف)
29- أبو السعود / إرشاد العقل السليم (تفسير النور00الآية 56)
فضيلة الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق