مفاتيح سورة الصف
مفاتيح سورة الصف |
|
61ـ الصف
اسم السورة
وهذه السورة تسمى بـ :
1ـ سورة الصف (1)
وذلك : من قوله تعالى ( إن الله يحب الذين يقاتلون
في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ) (2)
وليس المراد من ذلك : مجرد الاصطفاف ، بل المراد : التماسك ،
والتعاون ، وتكامل المواقف، وعدم التخاذل ، وعدم وجود الثغرات (3)
ويقول الأستاذ / موسى جار الله : ولو سميت السورة
"سورة التبشر" : لكان حقا صادقا ؛ لأن السورة كلها
مبشرات عظيمة ، مترتبة على تبشير النبي الكريم عيسى بن
مريم ـ عليهما السلام ـ !!
إلا أن أدب الشارع الحكيم : قدم وظيفة الأمة
على كل هذه المبشرات ؛ حيث إن الثبات في صف
الجهاد .. ثبات البنيان المرصوص : هو أدب الأمة ،
فالصف : صفة الأمة (4).
2ـ سورة الحواريين (5)
وذلك : من قوله تعالى ( قال عيسى ابن مريم
للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار
الله ) (6).
3ـ سورة عيسى (7).
ولعل ذلك : لتبشير عيسى ـ عليه السلام ـ بمحمد .
ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، في قوله تعالى: (وإذ قال عيسى
ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا
لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من
بعدي اسمه أحمد ) الآية (8).
هذا .. ويذكر الأستاذ / موسى جار الله
اسما آخر لهذه السورة ، وهو :
4ـ سورة أحمد (9)
حيث يقول : وفي السورة ، اسم النبي الكريم "أحمد" ،
ولم يذكر الكتاب الكريم إلا على لسان عيسى ابن مريم.
وإذا كانت سورة " القتال " قد سميت : سورة
محمد .. !!
قلنا أن نسمي هذه السورة ، سورة أحمد، كما
سماها البعض : سورة الحواريين (9)
عدد : آياتها (10)
آياتها : (14) أربع عشرة آية
كلماتها : (221) مائتان وإحدى وعشرون كلمة.
حروفها: (900) تسعمائة حرف.
ترتيبها
مدنية .
أ ـ في المصحف
بعد : سورة " الممتحنة" ، وقبل : سورة "الجمعة".
ب ـ في النزول .. بعد : سورة " التغابن" ، وقبل : سورة "الجمعة"
ــ
سبب نزول سورة الصف
( بسم الله الرحمن الرحيم) قوله تعالى : (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفر من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- وقلنا : لو نعلم أي أحب إلى الله تبارك وتعالى عملناه ، فأنزل الله تعالى: (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم) إلى قوله: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) إلى آخر السورة ، فقرأها علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – (11).
تناسبها مع "الممتحنة"
ــ
إذا كانت سورة " الممتحنة " (12) : قد نهت عن اتخاذ الكفار أولياء ، في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) (13) .. !!
فإن سورة "الصف" : قد حثت على جهاد هؤلاء الكفار، ورغبت فيه، في قوله تعالى : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) (14) وفي قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )(15).
ومناسبتها ما قبلها – أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك تأكيد للنهي الذي تضمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين (16).
هدف السورة
هذه السورة : تستهدف أمرين أساسيين (17)، واضحتين في سياقها كل الوضوح.
إلي جانب : الإشارات ، والتلميحات الفرعية، التي يمكن إرجاعها إلي ذينك
الأمرين الأساسيين :
تستهدف أولاً : أن تقرر في ضمير المسلم، أن دينه هو المنهج الإلهي
للبشرية في صورته الأخيرة .
ولكن سبقته صور منه تناسب أطواراً معينة في تاريخ البشرية .
كما سبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات .
وهذه الصور، وهذه التجارب : تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة
من هذا الدين الواحد، الذي أراد الله تعالي أن يكون خاتمة الرسالات ،
وأن يظهره علي الدين كله في الأرض .
هذا الهدف الأول الواضح في السورة : يقوم عليه الهدف الثاني .
وهو : أن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة،
ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض .. يستتبع ـ بالتالي ـ شعوره بتكاليف
هذه الأمانة ، شعورا يدفعه إلي صدق النية في الجهاد ؛ لإظهار دينه علي
الدين كله ـ كما أراد الله ـ وعدم التردد بين القول والفعل ، ويقبح أن
يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ، ثم ينكص عنه .
هدفها
الحث علي الاجتهاد التام في الاجتماع علي قلب واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلي البراءة منهم بحملهم علي الدين الحق، أو محقهم عن جديد الأرض، أقصى المحق، تنزيها للملك الأعلي عن الشرك، وصيانة
لجنابة الأقدس عن الإفك، ودلالة عن الصدق في البراء منهم، والعداوة
لهم .
وأدل ما فيها علي هذا المقصد : الصف ، بتأمل آيته، وتدبر ماله من
جليل النفع في أوله، وأثنائه ـ وغايته (18) .
تقسيمها
تتكون هذه السورة من : مقدمة ، وثلاث فقرات(19)
المقدمة : عبارة عن آية واحدة فقط .
وهي : الآية الأولي من السورة .
وفيها :
إخبار : بأن (ما في السماوات وما في الأرض) علي الإطلاق قد خضع لله عز
وجل ، منزهاً له ، طوعاً أو كرهاً (وإن من شيء إلا يسبح بحمده
ولكن لا تفقهون تسبيحهم)(20) .
ومقتضي هذا الإخبار : الإشعار بأن عليكم أن تخضعوا ـ بالتالي ـ
لله تعالى، منزهين له، عاملين بشرعه وتعاليمه .
والفقرة الأولى: عبارة عن (8) آيات
من الآية (2) حتى نهاية الآية (8)
وفيها:
عتاب للمؤمنين: على انفصال القول عندهم عن العمل.
كما تُعَلّمهم: أن هذا الأمر.. بغيض ممقوت جداً عند الله تعالى.
وتقدر: أن الله يحب من (الذين يقاتلون) أن يكونوا (صفا) مترابطا متماسكا أشد التماسك، موحد الرأي ، ليس به أي خلل،
(كأنهم بنيان مرصوص)
وتذكر كلاما ومعلومات عن أنواع ممن لا يحبهم الله ، ولا يرضى عنهم.. من: يهود، ونصارى، وكافرين، ومشركين؛ لتصل من خلال ذلك ، إلى بيان حكمة القتال في سبيل الله، ومبرراته، وأسبابه، وبشارة المؤمنين بالظهوروالنصر.
والفقرة الثانية : عبارة عن (4) آيات
من الآية (10) حتى نهاية الآية (13)
وفيها:
ذكر وبيان لطريق الفلاح..وهو :إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله.
وإعلام : بنتائج سلوك هذا الطريق.. من : غفران للذنوب، ودخول (جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن) ،
وذلك : في الآخرة ، وإن ذلك لهو (الفوز العظيم) وأيضاً البشارة للمؤمنين : بالنصر من الله ، والفتح القريب، وذلك : في الدنيا.
ويلاحظ:أن ذلك كله تهييج على القتال في سبيل الله، وحث عليه، ببيان ما لأهله، وما وعدوا به من فوز عظيم
والفقرة الثالثة : عبارة عن : آية واحدة فقط.
وهي الآية (14) وهي خاتمة آيات السورة. وفيها:
حض على نصرة الله تعالى، والتأسي بأصحاب عيسى عليه السلام في ذلك.
وبيان ما أعطى الله أصحاب عيسى من التأييد، الذي أمر الله رسوله أن يبشر به من جاهد، والذي وعد الله به هذا الدين، في قوله (هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
وأنه: لم تزل هذه الأمة مؤيدة منصورة.. إذا جاهدت، ولم يزل حملة دين الله وأنصاره يكرمهم الله عز وجل بأنواع التأييدات الربانية بالخوارق والكرامات، وقبول القلوب لهديهم وأنه ـ كذلك ـ مع صعوبة الظروف التي يعيشها المسلمون في عصرنا؛ بسبب سيطرة الكفر وأهله على سياسة العالم: فإن الإسلام يزحف وينتشر..!!
ومع أنه لا يقاتل اليوم إلا نادرا تحت راية (لا إله إلا الله): فإن عملية التأييدات الربانية تظهر بمظاهر متعددة.
وعندما يفىء المسلمون إلى دينهم، ويبدأون عملية الجهاد شاملة: فإن خارطة العالم كله، ستتغير _ بإذن الله تعالى_ لصالحهم، وذلك وعد الله الذي لا يتخلف.
أبرز موضوعات السورة (21)
(1) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.
(2) البشارة بمحمد على لسان عيسى.
(3) محمد صلى الله عليه وسلم أرسل بالهدى والدين الحق.
(4) التجارة الرابحة عند الله هي الإيمان والجهاد في سبيله.
(5) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم.
دروس وعبر
-------
1ـ قال الزمخشري في الآية رقم (3) هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه. قصد في (كَبًُرَ) التعجب من غير لفظه. ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين. وأسند إلى (أن تقولوا)، ونصب (مقتاً) على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص، لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ (المقت) لأنه أشد البغض وأبلغه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً، حتى جعل أشده وأفحشه. و (عند الله) أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره وشدته.
قال الناصر: وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس، وهو تكراره لقوله: (ما لا تفعلون) وهو لفظ واحد، في كلام واحد، ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام (22).
2ـ (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص) قال القاشاني: لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله، إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه، فأصل الشرك ومحبة الأنداد، محبة النفس. فإذا سمح بالنفس، كان غير محب لنفسه، وإذا لم يحب نفسه فبالضرورة لم يحب شيئاً من الدنيا. وإذا كان بذله للنفس في الله وفي سبيله لا للنفس، كما قال ـ ترك الدنيا للدنيا ـ كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شئ، فكان من الذين قال فيهم : (23) (والذين ءامنوا أشد حباً لله) وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم، لقوله (24) (يحبهم ويحبونه ) انتهى.
تنبيهات
ــ
الأول ـ في ذكر هذه الآية عقيب مقت المخلف دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار، فلم يفوا . انتهى.
وأيده الناصر من الوجهة البيانية بأن الأول كالبسطة العامة لهذه القصة الخاصة، كقوله تعالى (25) : ( يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فالنهي العام ورد أولاً. والمقصود اندراج هذا الخاص فيه، كما تقول للمقترف جرماً معيناً : لا تفعل ما يلصق العار بك، ولا تشاتم زيداً، وفائدة مثل هذا النظم، النهى عن الشئ الواحد مرتين، مندرجاً في العموم، ومفرداً بالخصوص، وهو أولى من النهي عنه على الخصوص مرتين فإن ذلك معدود في حيز التكرار، وهذا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل. انتهى.
الثاني ـ في (الإكليل) : قال الكيا الهراسي، يحتج بقوله تعالى : (لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) في وجوب الوفاء بالنذر، ونذر اللجاج، قال غيره: والوعود. انتهى.
وقال ابن كثير : هو إنكار على من يعد وعداً، أو يقول قولاً، لا يفي به. ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقاً، سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا. واحتجوا أيضاً من السنة بما ثبت في الصحيحين (26) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان. ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى ( كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله ! تعال أعطك. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : وما أردت أن تعطيه ؟ قالت : تمراً، فقال : أما إنك لو لم تفعلي ، كتبت عليك كذبة.
وذهب الإمام مالك – رحمه الله – إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود، وجب الوفاء به. كما لو قال لغيره: تزوج ولك على كل يوم كذا . فتزوج. وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقاً ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض، نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى (27) (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً ) . وقال تعالى (28) : (ويقول الذين ءامنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) الآية ، وهكذا هذه الآية معناها كما قال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين، قبل أن يفرض الجهاد، يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان، ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله (يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون).
وقيل : كان المسلمون يقولون : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لأتيناه، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا، فلما كان يوم أحد، تولوا عن النبي – صلى الله عليه وسلم - ، حتى شج وكسرت رباعيته، فأنزل الله (يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون) روى ذلك عن مقاتل بن حيّان.
وقيل : نزل هذا توبيخاً لقوم من المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون. يقولون : لو خرجتم خرجنا معكم، وكنا في نصركم، وفي وفي .... روى ذلك عن ابن زيد.
وكل المروي هنا مما تشمله الآية.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيسأله : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فلم يقم منا أحد، فأرسل غلينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلاً فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة – يعني سورة الصف – كلها . ولفظ ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام؛ أن ناساً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ؛ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك. قال : فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أولئك النفر رجلا رجلاً، حتى جمعهم، ونزلت فيهم هذه السورة – الصف – قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلها.
وفي رواية ابن أبي حاتم هذه فائدة جليلة : وهي أن قول الصحابي نزلت هذه السورة ، بمعنى قرئت في الحادثة، كما بينته الرواية قبله. والروايات يفسر بعضها بعضا. وقد نبهنا على ذلك مراراً.
الثالث ـ في (الإكليل) في قوله (كأنهم بنين مرصوص) : استحباب قيام المجاهدين في القتال صفوفاً كصفوف الصلاة. وأنه يستحب سد الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام صف الأول فالأول، وتسوية الصفوف قدماً بقدم، لا يتقدم بعض على بعض فيها.
قال ابن أبي الفرس : واستدل بها بعضهم على أن قتال الرحالة أفضل من قتال الفرسان. لأن التراص إنما يمكن منهم. قال : وهو ممنوع. انتهى.
وفي التشبيه وجهان آخران :
أحدهما ـ أن يكون المراد الثبات ورسوخ الأقدام في الموقف، تنبيهاً على أن المتزلزل القدم، والمضطرب في الموقف – دع من يعزم على الفرار – ممن يمقته الله تعالى، ولا تناله محبته.
ثانيهما ـ أن يكون المعنى به اجتماع الكلمة ، والاتفاق على تسوية الشأن مع العدو، حتى يكونوا في الاتحاد وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص. وقد أشار لهذين الوجهين الرازي. وهما أقرب من الأول، لتقويتهما لمعنى طليعة السورة من الثبات على الوعد والوفاء به، والعتب على من يخالف فيه، كما تقدم.
القول في تأويل قوله تعالى :
( وإذ قال موسى لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفسقين )
3ـ (وإذ قال موسى لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم) أي لم توصلون إليّ الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به، وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي فيما جئتكم به من الرسالة، لما شاهدتم من الآيات البينات ؟ ومقتضى علمكم ذلك، تعظيمي وإطاعتي، لأن من عرف الله وعظمته، عظم رسوله، لأن تعظيمه في تعظيم رسوله.
قال ابن كثير : وفي هذا تسلية لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر. ولهذا قال – صلوات الله عليه – (29) : رحمة الله على موسى ! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر. وفيه نهى للمؤمنين أن يوصلوا له، - صلوات الله عليه – أذى ، كما قال تعالى (30): (يأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين ءاذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) انتهى.
وقال أبو السعود: هذا كلام مستأنف، مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال. و(إذ) منصوب على المفعولية بمضمر – خوطب به النبي – صلى الله عليه وسلم – بطريق التلوين . أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال، وقت قول موسى لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة، بقوله (31) : (يقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عصيان، حيث قالوا (32) ( ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) إلى قوله (33) (فاذهب أنت وربك فقاتلا. إنا ههنا قاعدون) وأصروا على ذلك، عليه الصلاة والسلام، كل الأذية، هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية، من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى، من انتقاصه وعيبه في نفسه وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة – فمما لا تعلق له بالمقام. انتهى ملخصاً. وملخصه : أن المقام يعيّن نوع الأذية ويخصصها، والقرينة إحدى مخصصات العام، إلا أن أخذها عامة أعظم في التسلية وأولى، وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم.
(فلما ذاغوا) أي عن مقتضى علمهم لفرط الهوى، وحب الدنيا (أزاغ الله قلوبهم) أي عن طريق الهدى، وحجبهم عن نور الكمال، لصرف اختيارهم نحو الغي والضلال. (والله لا يهدي القوم الفسقين) أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرين على الغواية.
4- (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة) أي التي أنزلت على موسى، وذلك مما يدعو إلى تصديقه – عليه السلام -. (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات) أي الدلالات التي آتاها الله إياه، حججاً على نبوته، (قالوا هذا سحر مبين) أي بين.
والإشارة إلى ما جاء به أو إليه، عليه الصلاة والسلام، وتسميته سحراً مبالغة، يريد عليه السلام : أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً، ممن تقدم وتأخر.
تنبيهات
ــ
الأول ـ نقل الرازي وغيره مصداق هذه الآية من الإنجيل الموجود بين أيديهم. وذلك في إنجيل يوحنا، في الباب الرابع عشر ، هكذا :
إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد – كما في النسخة المطبوعة سنة 1821 و 1831 و 1833 بمدينة لندن – وفارقليط يونانية ، ولفظها الأصلي (بيركلوط) ، ومعناه : محمد أو أحمد، كما بينه صاحب (إظهار الحق).
وذكرت جريدة المؤيد عدد (3284) صفحة (2) تحت عنوان (لا يعدم الإسلام منصفاً) :
وقال مسيو مارسيه من (مدرسة اللغات الشرقية) ما يأتي :
إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي، واسم محمد جاء من مادة حمد. ومن غريب الإتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسما من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد، وهو أحمد، لتسمية البراكلية به. ومعنى أحمد صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا بأن كتب المسيحيين قد بشرت بمجئ النبي محمد. وقد أشار القرآن نفسه إلى هذا بقوله عن المسيح (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
وقد قال اسبرانجيه: إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة (إنجيل يوحنا) حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم. انتهى بالحرف.
وأما (إنجيل برنابا) ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الضافية الذيول، التي يذكر فيها اسم محمد في عرضها ذكراً صريحاً، ويقول إنه رسول الله.
وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحالة انكليري أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وفيها يقول المسيح : (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وذلك موافق لنص القرآن الكريم بالحرف. وقد بدل الرهبان نقط (الفارقليط) في المطبوعات الأخيرة بـ (المعزى).
قال بعضهم : ولا عجب من هذه التحريفات المتجددة بتجدد الطبعات، فإنها سجية القوم في كتبهم المقدسة.
الثالث ـ قال الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام) : الفرق بين محمد وأحمد من وجهين :
أحدهما ـ أن محمداً هو المحمود حمداً بعد الحمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه. و (أحمد) أفعل تفضيل من الحمد، يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره. فمحمد زيادة حمد في الكمية، وأحمد زيادة في الكيفية، فيحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر.
والوجه الثاني ـ أن محمداً هو المحمود حمداً متكرراً كما تقدم، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره. فدل أحد الاسمين ـ وهو محمد ـ كونه محموداً. ودل الاسم الثاني ـ وهو أحمد ـ على كونه أحمد الحامدين لربه. وهذا هو القياس، فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من فعل الفاعل، لا من فعل المفعول، ذهاباً إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي. ونازعهم آخرون وجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول، لقول العرب : (ما أشغله بالشيء).
إلى أن قال: والمقصود أنه – صلى الله عليه وسلم – سمى محمداً وأحمد. لأنه يحمد أكثر ما يحمد غيره، وأفضل مما يحمد غيره. فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار. وذلك أبلغ في مدحه، وأتم معنى. ولو أريد به اسم الفاعل لسمى (الحماد) وهو كثير الحمد، كما سمى محمداً، وهو المحمود كثيراً. فإنه – صلى الله عليه وسلم – كان أكثر الخلق حمداً لربه. فلو كان اسمه باعتبار الفاعل، لكان الأولى أن يسمى حماداً، كما أن اسم أمته الحمادون، وأيضاً فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً وأحمد، فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السموات والأرض. فلكثرة خصائله التي تفوت عد العادين سمى باسمين من أسماء الحمد، يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة . انتهى (34).
* * *
الهوامش والمراجع
ـــ
22ـ القاسمي.
23ـ البقرة / 165.
24ـ المائدة / 54.
25ـ الحجرات / 1 و 2.
26ـ أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب علامة المنافق.
وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان .
27ـ النساء / 77.
28ـ محمد / 20.
29ـ أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعطي المؤلفة قلوبهم.
30ـ الأحزاب / 69.
31ـ المائدة /21.
32ـ المائدة /22.
33ـ المائدة /24.
34ـ القاسمي.
المراجع والهوامش
ــ
1ـ انظر : السخاوي .. جمال القراء 1/37 ، القرطبي .. الجامع لأحكام القرآن (س: 61) ، الفيروزابادي .. بصائر ذوي التمييز 1/46، البقاعي .. نظم الدرر (س : 61) ، السيوطي .. الإتقان ( النوع : 17) ، الشوكاني .. فتح القدير ، الألوسي .. روح المعاني : (س : 61).
2ـ الصف / 4.
3ـ سعيد حوى .. الأساس في التفسير (س : 61/41 ).
4ـ ترتيب سور القرآن وتناسبها ص 178.
5ـ انظر : السخاوي ، الفيروزابادي ، البقاعي، السيوطي، الألوسي ، القاسمي (مصادر سابقة).
6ـ الصف : 10.
7ـ الفيروزابادي ، والألوسي (مصادر سابقة).
8ـ الصف : 6.
9ـ ترتيب سور القرآن وتناسبها ص 178.
10ـ انظر : مكي .. التبصرة ص 351 ، السخاوي .. جمال القراء 1/221، الفيروزابادي .. بصائر 1/462 ، الألوسي .. روح المعاني (س:61) ، نثر المرجان 7/321.
11ـ الواحدي .. أسباب النزول والسيوطي .. لباب النقول 218.
12ـ انظر : الألوسي .. روح المعاني ( س : 61).
13ـ الممتحنة : الآية 1.
14ـ الصف : الآية 4.
15ـ الصف : 10 ، 11.
16ـ تفسير المراغي.
17ـ ظلال القرآن .
18ـ نظم الدرر 20/1 .
19ـ انظر : الأساس 10/5876 .
20 ـ الإسراء: 44
21- تفسير المراغي: 28/ 92 |
 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق