إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

سبحان الله والحمد لله والله أكبر

السبت، 26 نوفمبر 2011

مفاتيح سورة الحديد


مفاتيح سورة الحديد
57 ـ الحديد

اسم السورة


وهذه السورة تُسمى بـ :


سورة الحديد (1)


وذلك : من قوله تعالى ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) (2).


وقد ذكر في هذه الآية : إنزال الكتاب، وإنزال الميزان، وإنزال الحديد.. !!


واعتمد في التسمية فقط : اسم الحديد، لا اسم الكتاب، ولا اسم الميزان؛ لأن الله تعالى أفرد بالذكر ـ في الآية ـ الحديد ، وخصه بالبيان .. !!


كما أنه ـ سبحانه وتعالى ـ وسيلة في تحقيق غاية الكتاب، وغاية الميزان.


ثم .. في قول الله ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) (3) عطف عليه غاية ثالثة ، هي ثمرة الغايتين.


والحديد ـ في ذات الوقت ـ أهم شيء يحتاج إليه الإنسان ، وأكثر شيء يستهلكه في حاجاته، وضرورياته، وليس في الطبيعة منه بدل، وللذهب أبدال (4).


هذا .. ولأنه ـ كذلك ـ ناصر لله ولرسوله في الجهاد ؛ فنزل منزله الآيات الناصرة لله ولرسوله، على أنه سبب لإقامة العدل كالقرآن ، كما أنه اسم جامع للمنافع، فأشبهه أيضاً .


لذا .. سميت سورة ذكر فيها بذلك (5).



عدد : آياتها ، وكلماته ، وحروفها (6)


وعدد آياتها : (29) تسع وعشرون آية.


وكلماتها : ( 544) خمسمائة وأربع وأربعون كلمة.


وحروفها : ( 2476) ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً .



تاريخ نزولها



أسند صاحب الفردوس عن جابر ـ رضي الله عنه ـ : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لا تحتجموا يوم الثلاثاء ، فإن سورة "الحديد" أنزلت يوم الثلاثاء" (7).



ترتيبها


مدنية .


أ ـ في المصحف .. بعد : سورة " الواقعة" ، وقبل : سورة "المجادلة" .


ب ـ في النزول .. بعد : سورة " الزلزلة " ، وقبل : سورة " محمد" .


--------------------------


في فضلها

ـــ

روى الإمام أحمد ـ المسند 4/128 ط الحلبي ـ عن العرباض بن سارية أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد.


وقال فيه : إن فيهن آية أفضل من ألف آية. رواه : أبو داود والترمذي والنسائي.


والآية المشار إليها ـ كما قال ابن كثير ـ في الحديث، هي .. والله أعلم ـ قوله تعالى : ( هو الأول والآخر .. ) الآية (8).


جاء في فضلها ، مع أخواتها : ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.


عن عرباض بن سارية : " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقرأ المسبحات ، قبل أن يرقد ، وقال : إن فيهن آية .. أفضل من ألف آية " (9).


وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ، ثم قال : قال يحيى : نراها الآية التي في آخر الحشر (10).


وقال ابن كثير(11) : والآية المشار إليها في الحديث ـ هي ـ والله أعلم ـ قوله تعالى : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ) (12).



التناسب بينها وبين الواقعة

ــ

1ـ لما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه ـ سبحانه ـ عما أنكره الكفرة من البعث.. جاءت هذه لتقرير هذا التنزيه، وتبيينه بالدليل والبرهان والسيف والسنان (13).


2ـ إذا كانت سورة "الواقعة" : قد ختمت بالأمر بالتسبيح في قوله تعالى: (فسبح باسم ربك العظيم) .. !!


فإن سورة "الحديد" : قد بدأت بالإخبار عن تسبيح (ما في السموات والأرض) لله العزيز الحكيم (14).


3ـ إذا كانت "الواقعة" (15) : قد ختمت بالأمر بالتسبيح ، في قوله تعالى: (فسبح باسم ربك العظيم ) .. !!


فإن سورة "الحديد" : قد جاء أولها واقعاً موقع العلة لهذا الأمر الذي ختمت به "الواقعة" ، فكأنه قيل: (سبح باسم ربك العظيم) لأنه : سبح له (ما في السموات والأرض).


4ـ ووجه مناسبتها لما قبلها :


(1) إن هذه بدئت بالتسبيح ، وتلك ختمت به.


(2) إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل : سبح باسم ربك العظيم ، لأنه سبح له ما في السموات والأرض (16).




هدف السورة

ــ

1ـ تحقيق الإيمان الكامل في الجماعة الإسلامية، وصولاً بهذا التحقيق للإيمان إلى : تخليص النفوس لدعوة الله ، فلا تضن بشيء عليها، ولا تحجز شيئاً دونها، لا من الأرواح ولا من الأموال ولا من الخلجات أو الخواطر أو الضمائر .. الخ.


2ـ تعميق التصور والفهم لقضية النفاق وأسبابه وآثاره؛ لنتجنبه وأهله.


3ـ تعميق التصور والفهم لقضية الكفر، لنتجنبه وأهله.


الإيمان بالله ، بالرسل، بالكتب، بالملائكة ، باليوم الآخر ، بالقضاء والقدر.



تقسيمها

ــ

تتكون هذه السورة من مقدمة ، وقسم واحد، وخاتمة (17).


فالمقدمة عبارة عن ( 6 ) آيات.


من الآية الأولى ، وحتى نهاية الآية (6).


وفيها :


حديث عن الله سبحانه وتعالى، يتضمن تعريفاً به عز وجل، وبصفاته العلى، وبياناً لمالكيته للأشياء كلها، وإحاطة قدرته وعلمه ، سبحانه وتعالى، للأشياء كلها، وأنه ـ سبحانه ـ تسبح له الأشياء كلها، وأنه العزيز الحكيم.


ويلاحظ : أن هذا الحديث .. حديث عن أصل من أصول هذا الدين ، وهو الإيمان بالغيب ، الذي عليه مدار الإسلام كله.


كما يلاحظ : أن الإيمان بالله تعالى، هو قمة الإيمان بالغيب، وهو مرتكزه الذي يتفرع منه ـ بعد ذلك ـ كل أصول هذا الدين ، وقواعده ، وفروعه.


كما يلاحظ ثالثاً : أن هذا التعريف على الله سبحانه وتعالى .. كان ضرورياً في هذا التقديم لسورة تأمر : بالإيمان بالله تعالى ، ورسوله، وتأمر كذلك بالإنفاق.


والقسم الرئيسي في السورة عبارة عن (21) آية.


من الآية (7) حتى نهاية الآية (27).


وهذا القسم .. يتكون ـ بدوره ـ من : فقرتين .


الفقرة الأولى : عبارة عن (9) آيات

من الآية (7) حتى نهاية الآية (15).

وفيها :


الأمر : بالإيمان بالله ورسوله ، وكذلك : الإنفاق.


وبيان : ما أعد الله من فضل وكرامة للمؤمنين المنفقين.


وحث على الإيمان بالله تعالى.


ويلاحظ : أنه لم يرد ـ في الفقرة ـ حث مباشرة على الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. لأن الحث على الإيمان بالله تعالى .. يقتضي الإيمان برسول ، وأيضاً لأن الحث على الإيمان بالله هنا .. قد تضمن ـ من جهة أخرى ـ ما يوجب الإيمان بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .


ثم : حث على الإنفاق في سبيل الله .


وذلك : من خلال .. التذكير بأن لله ميراث السموات والأرض .


وكذلك : التذكير بحال أهل الإيمان ، والكفر، والنفاق ، يوم القيامة.


والفقرة الثانية : عبارة عن (12) آية .


من الآية (16) حتى نهاية الآية (17).


وفيها :


أمر : بالخشوع للقرآن ، وترجيح وحث على الخضوع له، والاتعاظ بما فيه، والعمل به.


ونهي : عن قسوة القلب، والفسوق عن أمر الله، وتحذير أن تكون هذه الأمة كالأمم السابقة، فيما وقعت فيه .. من قسوة قلب، وفسوق عن أمر الله.


ويلاحظ : أنه بالاستجابة لهذا الأمر، والامتثال لهذا النهي، يكون القلب البشري .. قد ارتفع إلى أعلى درجات الاستعداد للتلقي والتذكير والاتعاظ.


ولذلك .. ، وفي هذه الحالة ..


يأتي الأمر : بما يحقق هذا الخشوع ويساعد عليه ، وبما يزيل قسوة القلب ويساهم فيه ، وبما يبعد عن القسوة وينجي منها.


وذلك من خلال :


المعرفة بالله تعالى.


والإيمان به وبرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ


والإنفاق في سبيل الله .


والمعرفة للدنيا على حقيقتها.


والمعرفة للآخرة على حقيقتها.


والإيمان بالقضاء والقدر.


وأخيراً .. حديث عن موقف أمتين من الوحي المنزل عليهم، يحذرنا الله تعالى ـ من خلال هذا الحديث ـ أن تقسوا قلوبنا كما قست قلوبهم ، أو أن نفسق كما فسقوا .


وخاتمة السورة : عبارة عن : آيتين فقط .


وهما : الآية (28) والآية (29) وهي خاتمة آيات السورة.


وفيها :


حث على التقوى والإيمان .. من خلال الأمر بهما ، وبيان الفضل الذي ينتظر صاحبهما.


وهذا الحث للحيلولة ـ في ذات الوقت ـ بين المسلمين ، وبين قسوة القلب، أو الفسوق.


ويلاحظ : أن بداية القسم الوحيد في السورة .. يأمر بالإيمان بالله ورسوله، وبداية هذه الخاتمة .. تأمر ـ كذلك ـ بالإيمان بالله ورسوله.


ولأن الإيمان بالله ورسوله : هو الأساس .. !!


ولأنه إذا تحقق وبنى هذا الأساس : تفرع منه كل خير .. !!


ولذا .. فإنه إذا وجد الإيمان بالله ورسوله : نبع منه ، ونتج عنه .. الإنفاق في سبيل الله ، وهو ما انفرد بالأمر بذلك بداية القسم الرئيسي في السورة .


وأيضاً .. فإنه إذا وجد الإيمان بالله ورسوله .. تحقق بالتالي، ونبع منه، ونتج عنه .. التقوى ، وهو ما انفردت به خاتمة السورة.


وبذلك : تضافرت .. مقدمة السورة ، وقسمها الرئيسي ، وخاتمتها .. على تحقيق المراد منها، وهو الأمر بالإيمان بالله ورسوله، والإنفاق في سبيل الله تعالى، الناجم عن تقوى الله عز وجل.



موضوعات السورة (18)

ـــ

1ـ صفات الله وأسماؤه الحسنى، وظهور آثاره في بدائع خلقه.


2ـ الحض على الإنفاق.


3ـ بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة.


4ـ ثواب المتصدقين الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً.


5ـ ذم الدنيا وأنها لهو ولعب.


6ـ الترغيب في الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها.


7ـ التسلية على المصايب.


8ـ ذم الاختيال والفخر والبخل.


9ـ الحث على العدل.


10ـ الاعتبار بالأمم السالفة.


11ـ قصص نوح وإبراهيم.


12ـ إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم وآمنوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضاعف لهم الأجر عند ربهم.


13ـ الله يصطفي من رسله من يشاء ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته.



دروس وفوائد

ـــ

1ـ قوله تعالى: (سبح لله ما في السموات والأرض) [الآية: 1].

الجبال تسبح، والطير يسبح، ( يا جبال أوبي معه والطير)
الحجر كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، الجذع له حنين.
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).

2ـ قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) [الآية: 4].


إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب.

ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب

3ـ (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ... ) [الآية: 22]

لكي : لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [ القضاء والقدر].

4ـ (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ... ).


تنبيه على أنه وضع السلاح بيد أوليائه لينصروه وشريعته، وعلاقة ذلك بتخلف المسلمين.


5ـ قوله تعالى : ( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون). [الآية: 27]


6ـ قال العتبي في أول (تاريخه) : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً ، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينفع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت (الكتاب) قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتمضن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع (الكتب والميزان) وإنما تحفظه العامة على إتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذب عذابه، وهو (الحديد) الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع ـ نقله الشهاب ـ .


وأول القاشاني: (البينات) بالمعارف والحكم، و (الكتاب) بالكتابة، و(الميزان) بالعدل ، لأنه آلته، و(الحديد) بالسيف، لأنه مادته، قال : وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي، وينضبط النظام الكلي، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول، هو العلم والحكمة، والأصل المعول عليه في العمل، والاستقامة في طريق الكمال، هو العدل، ثم لا ينضبط النظام، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة.


فالأربعة هي أركان كمال النوع، وصلاح الجمهور، ويجوز أن تكون (البينات) إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية و(الكتاب) إشارة إلى الشريعة والحكم العملية و(الميزان) إلى العمل بالعدل والسوية و(الحديد) إلى القهر ودفع شرور البرية، وقيل: (البينات) العلوم الحقيقية، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية، أي الشرع، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات، والملك، وأيا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصي والنوعي في الدارين، إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل، ولا كمال إلا بالسيف والقلم، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى التعامل والتعاون، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع.


والنفوس إما خيرة أحرار بالطبع، منقادة للشرع، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع، فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع. والثانية لابد لها من القهر وسياسة الملك . انتهى (19).


تنبيه :


7ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول، حيث ذكر في كتاب الله تعالى ، بين فيها أن كثيراً من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف، لاشتباه المعنى في تلك المواضع.


وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع، وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا فيه معنى النزول المعروف، قال: وهو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب منزولاً إلا بهذا المعنى. ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطاباً بغير لغتها. ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى، في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز بما ذكرنا.


قال : وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد، والحديد يخلق في المعادن، وما يذكر عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ؛ أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة ـ فهو كذب لا يثبت مثله. وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، فأنزل الحديد والماء والنار والملح ـ حديث موضوع مكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون.


فإن قيل : إن آدم ـ عليه السلام ـ نزل معه جميع الآلات ، فهذه مكابرة للعيان.


وإن قيل : بل نزل معه آلة واحدة، وتلك لا تعرف، فأي فائدة في هذا لسائر الناس ؟


ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثم حديد موجود يطرق بهذه الآلات ؟ وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات .


ثم أخبر أنه أنزل الحديد، فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه، الذي به ينصر الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وهذا لم ينزل من السماء.


فإن قيل : نزلت الآلة التي يطبع بها. قيل : فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة، والآلة وحدها لا تكفي، بل لابد من مادة يصنع بها آلات الجهاد.


ثم قال : وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق، لأنه أخرجه من المعادن، وعلمهم صنعته، فإن الحديد إنما يخلق في المعادن، والمعادن إنما تكون في الجبال. فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال، لينتفع به بنو آدم . انتهى كلامه رحمه الله .


وقوله تعالى: (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) أي باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه. عطف على محذوف دل عليه ما قبله. أي لينتفعوا به ويستعملوه في الجهاد، وليعلم الله ... الخ . وحذف المعطوف عليه إيماء إلى أنه مقدمة لما ذكر، وهذا المقصود منه. أو اللام متعلقة بمحذوف. أي أنزله ليعلم ... الخ والجملة معطوفة على ما قبلها . فحذف المعطوف، وأقيم متعلقه مقامه. وقيل عطف على (ليقوم الناس بالقسط) . قال الشهاب : وهو قريب بحسب اللفظ، بعيد بحسب المعنى.


( إن الله قوي) أي على إهلاك من أراد إهلاكه (عزيز) أي: غالب قاهر لمن شاء (19).


تنبيهات


8ـ الأول : (الرهبانية) هي المبالغة في العبادة والرياضة، والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف. (فعلان) من رهب، كـ (خشيان) من خشى.


الثاني : قال ابن كثير في قوله تعالى : (فما رعوها حق رعايتها) : ذم لهم من وجهين:


أحدهما ـ في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.


والثاني ـ في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل.


الثالث ـ رأيت في كثير من مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين ذم بدعة (الرهبنة) وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار. فقد قال صاحب (ريحانة النفوس) منهم، في الباب السابع عشر، في الرهبنة:


إن الرهبنة قد نشأت من التوهم بأن الانفراد عن معاشرة الناس، واستعمال التقشفات والتأملات الدينية، هي ذات شأن عظيم، ولكن لا يوجد سند لهذا الوهم في الكتب المقدسة لأن مثال المسيح، ومثال رسله يضادانه باستقامة، فإنهم لم يعتزلوا عن الاختلاط بالناس، لكي يعيشوا بالانفراد، بل إنما كانوا دائماً مختلطين بالعالم، يعلمون وينصحون. ونحن نقول بكل جراءة : إنه لا يوجد في جميع الكتاب المقدس مثال للرهبنة، ولا يوجد أمر من أوامره يلزم بها. بل بالعكس، فإن روح الكتاب وفحواه يضاد كل دعوى مبنية على العيشة المنفردة المقرونة بالتقشفات. ولكن مع أن الكتاب المقدس لا يمدح العيشة الانفرادية ، فقد ظهر الميل الشديد إليها في الكنيسة، في أواخر الجيل الثاني وأوائل الجيل الثالث، وأيد بعض الباحثين المقاومين لها وقتئذ، أنها عادة سرت للمسيحيين من الهنود الوثنيين السمانيين. فإن لهم أنواعاً كثيرة من عبادات تأمر كهنتها بالبتولية والامتناع عن أكل اللحم وأمور أخرى مقرونة بخرافات.


ثم قال : ومع أن الرهبنة حصل عليها مقاومة من العقلاء، امتدت وانتشرت في المسكونة. وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات، بسبب الاضطهاد الذي أصابه، وآثر لأجله الطواف في البراري ، فراراً من أيادي مضطهديه. ثم عكف على الوحدة، وعاش بها، وذلك في الجيل الثالث. ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات. توهماً بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في العيشة الضيقة القشفة، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك العيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة. مع أن ذلك الوهم باطل، ومضاد للكتب المقدسة. ولما كثر عدد الرهبان كثرة هائلة، ونجم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة، إلا أنها لم تنجح كثيراً.


وأما بدعة العزوبة والتبتل، فنشأت من حض بولس عليها، وترغيبهم فيها، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى.


وقد قال صاحب (ريحانة النفوس) أيضاً : إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس. وإنما دخلت بالتدريج، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية، وظنهم أنها أزكى من الزواج، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحاً بالغاً النهاية في الإطراء، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث، حتى قاومتها كنائس أخرى، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها، لمغايرتها للطبيعة، ومضادتها لنص الكتب الإلهية، واستقرائها أديرة الراهبات، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتاً للفواحش والفساد.


وفي كتاب (البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية) إن ذم الزيجة خطأ لأنها عمل الأفضل، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء، تجول معهم. ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها، ومن العدل أن تستوفيه، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية، ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة ، لا بل من الباباوات المدعين بالعصمة، قد تكردسوا في هوة الزنا، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي. هذا وإن ذات النذر بالامتناع عن الزواج هو غير عادل، لتضمنه سلب حقوق الطبيعة، وكونه بضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا، ويفتح باباً واسعاً لدخول الشيطان. وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمر الله ، وبعدم وجود ألوف ألوف، ربما كانت تتولد من ذريته، فكأنه قد قتلها. وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط.


فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة، ولا في أجيال الكنيسة الأولى، وهو مضر على أنفس الرهبان، وعلى الشعب، فمن يقاومه يقاوم الشيطان. وهؤلاء الرهبان لا نفع منهم للرعية، إنما هم كالأمراء الذين يتخذون لأنفسهم قصوراً خارج العمران، فيتنعمون وحدهم في أديرتهم، ويسلبون أموال الشعب بالحيل والمخادعات وهم كسالى بطالون، يعيشون من أتعاب غيرهم، خلافاً لسلوك رسل المسيح، والمبشرين القدماء، الذين لم نر واحداً منهم انفرد عن العالم في مكان نزهته، واحتال بأن يعيش من أتعاب الشعب. إن بولس كان يخدم الكنائس، ويعيش من شغل يديه، وهو يوصي بأن الذي لا يعمل، فلا يطعم. ولا تتسع الصحف لشرح جميع الأضرار التي وقعت على العالم بسبب الرهبنات. انتهى، وهو حجة عليهم ، منهم (19).

* * *


والهوامش

ـــ
1ـ انظر : السخاوي .. جمال القراء 1/37 ، الفيروزابادي .. بصائر ذوي التمييز 1/453 ، البقاعي .. نظم الدرر ، والشوكاني .. فتح القدير ، والقاسمي.. محاسن التأويل : (س : 57).
2ـ سورة الحديد [آية: 25].
3ـ سورة الحديد [آية: 25].
4ـ موسى جار الله .. ترتيب سور القرآن ص 154 ، 155.
5ـ القاسمي .. محاسن التأويل ( س : 57 ).
6ـ انظر : مكي .. التبصرة ص 2345 ، السخاوي .. جمال القراء 1/220، الفيروزابادي .. بصائر ذوي التمييز 1/453 ، الألوسي .. روح المعاني (س:57) ، نثر المرجان 7/196.
7ـ نظم الدرر 19/251.
8ـ القاسمي : 16/30.
9ـ ... ؟
10ـ روح المعاني ..
11ـ ابن كثير.
12ـ سورة الحديد [آية: 3]
13ـ نظم الدرر 19/251.
14ـ الأساس : 10/5679.
15ـ انظر : الألوسي .. روح المعاني (س: 57).
16ـ المراغي.
17ـ الأساس ـ تفسير سورة الحديد.
18ـ المراغي 27/189، 190.
19ـ القاسمي.
* * * * *

ليست هناك تعليقات:

« كَفَّارَةُ المَجْلِسِ »

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ » .