مدخل عام لدراسة علوم اللغة العربية |
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. إن اللغة العربية ليست جميلة فقط بما تحويه من مفردات وتراكيب تحمل ما لا حصر له من ظلال المعاني المختلفة ، وغير ذلك مما سنفصل فيه القول إن شاء الله ، وإنما هي لغة دين ووحي سماوي ، نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لهداية الدهر كله ، ويبقى ما بقي الليل والنهار ، وهي الرباط الجامع بين المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم . لقد ترك كثير من الأمم لغتهم الأصلية كالمصريين مثلا والفرس وآثروا لغة القرآن ، أي أن حبهم للإسلام هو الذي عرّبهم .. وصلتهم بالقرآن هي التي أزالت فوارق الحدود والألسنة . ومع المخططات التي تُحكم للمسلمين ليصبحوا أمما شتى ، تبقى اللغة العربية هي الجامع بينهم ما بقي القرآن بين أيديهم . ولم يستطع أعداء المسلمين الطعن في القرآن نفسه ، وإنما وجهوا سهامهم إلى لغته بحجة صعوبتها على الناطقين بها فضلا عن غيرهم ، أو بحجة أنها لاتواكب التقدم العلمي ولا تفي بحاجة المخترعات الحديثة ولا تنفع في تدريس بعض العلوم كالطب مثلا . واتسع مجال القول في هذا ، وكثر الغربان الذين ينادون بالرغبة عنها إلى العامية ، فتصبح لغة العوام هي لغة التأليف والخطابة .. وفي نفس الوقت حاولوا النيل من أعلام اللغة العربية في عصر إحيائها ونهضتها بعد كبوتها ، حاولوا النيل من أحمد شوقي والبارودي ، بل من الشعر العربي الأصيل عن طريق إسقاط أعلامه . انظر إلى لويس عوض – بعد وفاة أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله – وتأمل كلماته وما فيها من دبيب كدبيب الأفاعي ، يقول : " لقد مات الشعر( العربي ) ، مات عام 1933 مات بموت أحمد شوقي . مات ميتة الأبد مات " فهو لم يعاد اشعر لأنه شعر بل لأنه عربي ووضع صفة العروبة بين قوسين ، ويشتد حقده ظهورا في تكرار لفظ الموت وختامه بكلمة الأبد . وبعد استبدال العامية بالفصحى ، ظهرت الدعوة إلى الشعر المنثور أو النثر المشعور رغبة عن الشعر العمودي ، وبذلك تُحارب العربية في كل اتجاه .. على مستوى التعليم بمراحله المختلفة ومن خلال وسائل الإعلام والغزو الثقافي . ومع مضي الوقت أصبح العداء على لغة القرآن يسير بقوة ذاتية ساعد على وجودها أجيال رغبت عن لغتها بفعل الاستعمار وأذنابه ، حتى دعا ذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم إلى نشر قصيدة عام 1903 بعنوان : اللغة العربية تنعى نفسها بين أهلها .. أي انها لم تجد من يرثى لحالها فأخذت تنعى نفسها بين أهلها المذهولين عما يُحاك لها . يقول رحمه الله على لسان اللغة العربية : من هنا نقول : إن الاهتمام باللغة العربية جزء من تدين المسلم ، بل إن قيامه بمهمته التي خلقه الله من أجلها قائمة في بعض نواحيها على الإحساس بلغة القرآن ، يقول تبارك وتعالى : " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها " فربط الله عز وجل بين عروبة القرآن ومهمة تبليغه . ولا نبالغ إذا قلنا إن الإحساس بلغة القرآن يشكل جزءا من سلوك المسلم وتقواه لله سبحانه وتعالى ، لقوله تبارك وتعالى : " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون . قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون " فجمع الله سبحانه بين عروبة القرآن ورجاء التقوى . كما أن الإحساس باللغة العربية يوجه التفكير ويرشد العقل ، وقد قال ربنا تبارك وتعالى : " إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " . وحتى لا نكون عونا لمن يكره لغتنا وديننا ينبغي أن نحب لغتنا العربية ( لغتنا الشريفة ) ونعرف لها شرفها وقدسيتها ، نحبها حبا تفبض به قلوبنا على من حولنا ؛ لندفع عنها أحقاد المستعمرين وأطماعهم " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " وهذا يتطلب منا معرفة علومها والمنفعة المحصَّلة من الإلمام بكل فرع منها ، وأن نجتهد في اكتساب ملكتها حتى نصل إلى الإحساس بها، فنمستطيع تذوق النصوص الفصيحة ، وأولها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبقدر ذلك ننفر من الخطأ فيها وعدم استقامة اللسان بها .. هذه هي أهداف هذا المدخل الذي له ما بعده إن شاء الله . لقد نشأت علوم اللغة خدمة للقرآن الكريم ومحافظة عليه من وقوع الخطأ في تلاوته وتعلمه وتفرعت علومها لهذا الغرض ، فكل علم يتناول القرآن ولغته من زاوية لصيانته وللكشف عن وجوه الإعجاز فيه . علوم اللغة العربية - الأدب - النحو - الصرف - العروض والقافية ( موسيقى الشعر ) - المعاجم - البلاغة ( المعاني والبيان والبديع ) الأدب يقول ابن خلدون في تعريف الأدب : هو الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم ، والجمع من كلام العرب ما تحصل به الملكة ، من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ، ومسائل من اللغة والنحومبثوثة أثناء ذلك يستقري منها الناظر – في الغالب – معظم قوانين العربية ... وبإيجاز ، الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارا والأخذ من كل علم بطرف .( انظر مقدمة ابن خلدون ) . وقال ابن ساعد الأنصاري : هو علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر ، بأدلة الألفاظ والكتابة . وموضوعه هو اللفظ والخط من جهة دلالتهما على المعاني . ومنفعته إظهار مافي نفس الإنسانمن المعاني وإيصاله إلى شخص آخر من النوع الإنساني ح اضراكان أو غائبا . وهو حلية اللسان والبيان، وبه تميز ظاهر الإنسان على سائر أنواع الحيوان . ( انظر إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد ) . والأدب بهذا المفهوم هو أفضل وسيلة للتعرف على رقة اللغة العربية وعذوبتها وذكائها في التعبير عن المعاني وثرائها الدلالي والمعجمي . من جمال الحذف يقول الشاعر على لسان امرأة تقدم للزواج منها وقد اعترضت عليه بنات عمها لرقة حاله فلم تعبأ بقولهن ولم تهتم بالشبهات التي يثرنها حول الرجل . يقول : فأصل عبارة المرأة : وإن ( كان فقيرا معدما فسوف أتزوجه )، فحذف الشاعر بقية العبارة بعد ( إن ) لأن العبارة تقتضيها ، والمعنى يتطلب وجودها ، والسياق يدل عليها . إلا أن الحذف هنا أعطى جملة من الأغراض : - الوقوف على النون وما فيها من غنة يعطي معنى الإصرار والتحدي . - عدم ذكرها وترديدها لشبهات بنات العم يتضمن عدم الاعتراف بها ، كما يتضمن نفي وجاهة هذه الشبهات عندها ، ولذلك لم تعد ذكرها . وهذا يذكرنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : " إمت الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها لإهجرته إلى ما هاجر إليه " فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدنيا والنكاح ، في حين أنه أعاد ذكر الغاية الأولى ( الله ورسوله ) . من معاني التكرار يقول الشاعر : فنجد أنه قد كرر ذكر هند في بيت واحد ثلاث مرات ، وهذا دليل على شدة حبه لها وتلذذه بذكرها ، فالذكر علامة حب الذاكر للمذكور ، وهو دليل على عظم قدرها عنده . وفي سورة القدر تكرر ذكر ( ليلة القدر ) بصورة متتالية لشرف هذه الليلة وقـدرها ، يـقول تـعالى : " إنا أنزلـناه في ( ليلة القدر ) . وما أدراك ما ( ليلة القدر ) . ( ليلة القدر ) خير من ألف شهر ... " من القرآن الكريم أحيانا نجد للفظ ظلالا تعين على معرفة ما لم يذكر في النص من أحداث ، ففي قوله تعالى " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " هنا نسأل : هل تحتاج أم إلى وحي من الله كي ترضع طفلها ؟! الأم لا تحتاج إلى وحي لترضع طفلها ، ولكن الجنود والقابلة بالخارج لو علموا بأن المولود ذكر سيدخل الجنود لذبحه في حجر أمه ، فكاد عقل أم موسى أن يطير خوفا على وليدها فذهلت عن إرضاعه وانشغلت بالشفقة عليه ، فأراد الله أن يهدئ من روعها ويسكن من خوفها ويطمئنها فأوحى إليها بإرضاعه ووعدها بنجاته . ث م قال لها " فإذا خفت عليه فألقيه في اليم " وفي موضع آخر " أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم " وهنا نسأل : لماذا ( ألقيه ) في موضع و ( اقذفيه ) في موضع آخر ؟ من دلالة اللفظين نرى – والله أعم – أن الفعل ( ألقيه ) جاء أولا وهي في بيتها ، وعندما ذهبت به حيث أوحى إليها ربنا تبارك وتعالى رأت اليم بمائه وأمواجه ، ونظرت إلى الصغير ودار في رأسها كيف ينجو هذا الرضيع من هذه اللجج ؟! فخافت عليه وترددت .. فجاء التحفيز الإلهي لقلب هذه الأم بهذا الفعل القوي ( اقذفيه في التابوت ) ( فاقذفيه في اليم ) بما في الفعل وتكراره م قوة وحماسة على عدم التردد . ============================= متولي محمد متولي |
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
الخميس، 17 نوفمبر 2011
مدخل عام لدراسة علوم اللغة العربية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق