إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

سبحان الله والحمد لله والله أكبر

الخميس، 24 نوفمبر 2011

مفاتيح سورة الصافات

مفاتيح سورة الصافات
أولاً:اسم السورة
هذه السورة تسمى:
الصافات:(1)
وذلك: لافتتاحها بها،(2) في قوله تعالى {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}
أو: لقوله تعالى(3) في السورة حكاية عن الملائكة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات 165، 166].
وسواء كانت التسمية لهذه الآية، أو تلك، أو لهما: فإن كلا من الآيتين قد اشتملت على صفات للملائكة تنفي إلهيتهم من الجهات الموهمة لها فيهم.
ومن هنا: ينتفي بذلك إلهية ما دونهم.
وبالتالي: يدل ـ ذلك ـ على توحيد الله.
وهذا: من أعظم مقاصد القرآن.(4)



ثانياً : عدد آيات السورة و كلماتها و حروفها

عدد آياتها:(5) (182) مائة واثنتان وثمانون آية.
وعدد كلماتها: (862) ثمانمائة واثنتان وستون كلمة.
وعدد حروفها: (3826) ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفاً.



ثالثاً : ترتيب السورة فى المصحف و فى النزول

أ‌- في المصحف.. بعد: سورة "يس"، وقبل: سورة "ص".
ب‌- في النزول.. بعد: سورة "الأنعام"، وقبل: سورة "لقمان".



رابعاً : سبب نزول السورة

لم نعثر على آثار في ذلك.



خامساً : مكية السورة و مدنيتها

هذه السورة مكية.



سادساً : فضل السورة

في فضل هذه السورة: نقول ما يلي...
1- ينطبق عليها ما في حديث "وائلة بن الأسقع"(6) حيث إنها من السورة المثاني.
2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.. يأمرنا: بالتخفيف، فيؤمنا بالصافات"(7)
3- وينبغي التنبيه على ما ذكره الزمخشري في الكشاف من حديث أبي بن كعب، وفيه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ والصافات أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين وبريء من الشرك، ويشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين"
حيث إنه: موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[انظر: مفاتيح سورة الفاتحة، فضل السورة].



سابعاً : صلة السورة بما قبلها

ترتبط هذه السورة بسورة "يس" قبلها ارتباطاً وثيقاً.
حيث:(8)
1- إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالاً في السورة السابقة في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الآية 31]
2- إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالاً في السورة قبلها.
3- المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها، ذاك أنه
ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان،
وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك، و هو وحدانيته تعالى، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجاداً وإعداماً إلا إذا كان المريد واحداً كما يشير إلى ذلك قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء 22]



ثامناً : هدف السورة

هذه السورة: تستهدف ـ كسائر السور المكية ـ بناء العقيدة في النفوس، وتخليصها من شوائب الشوك في كل صوره وأشكاله.
ولكنها ـ بصفة خاصة ـ تعالج صورة معينة من صور الشرك هذه، التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى، وتقف أمام هذه الصورة طويلاً، وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى..!!
تلك: هي الصورة التي كانت جاهلية العرب تستسبغها وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله ـ سبحانه ـ وبين الجن، وتستطرد في تلك الأسطورة: فتزعم أنه من التزاوج بين الله ـ تعالى ـ وبين الجنة، ولدت الملائكة.
ثم تزعم: أن الملائكة إناث، وأنهن بنات الله..!!
هذه الأسطورة: تتعرض لحملة قوية في هذه السورة، تكشف عن تهافتها وسخفها.
وإلى جانب علاج هذه الصورة: تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى، التي تتناولها السورة المكية..!!
فتثبت فكرة التوحيد، مستدلة بالكون المشهود {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الآيتان 4, 5]
وتتناول قضية البعث والحساب والجزاء.
وتعرض لقضية الوحي والرسالة.. إلخ.(9)



تاسعاً : تقسيم آيات السورة موضوعيا

تتكون هذه السورة من: مقدمة، وقسمين.(10)
المقدمة.. عبارة عن (10) آيات.
من الآية الأولى... حتى نهاية الآية (10).
وفيها:
الحديث عن التوحيد، وعن أدلته، وعن حفظ الوحي.
والقسم الأول.. عبارة عن (138) آية
من الآية (11) حتى نهاية الآية (148).
وهو: يبدأ بقوله تعالى {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الآية 11]
وفيه:
الحديث عن: التوحيد، واليوم الآخر، والرسل، كمواضيع متلازمة.
إذْ يرتبط الإيمان بالله تعالى بالإيمان باليوم الآخر.. بل إن أكثر كفر الكافرين سببه الكفر باليوم الآخر.
ويرتبط الإيمان بالله تعالى بالإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام.. إذ هم الذين يعرفونه حق المعرفة، ويُعَرِّفون عليه حق التعريف.
والقسم الثاني.. عبارة عن (34) آية
من الآية (149) حتى نهاية الآية (182) وهي خاتمة السورة.
وهو: يبدأ بقوله تعالى {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الآية 149]
وفيه:
الحديث عن: الله عز وجل، والملائكة، والرسل، والمؤمنين.
كل ذلك في أسلوب يبلور قضايا: التوحيد، والتنزيه، والإيمان، وما يتعلق بذلك.



عاشراً : أبرز موضوعات السورة

ومجمل ما حوته السورة من موضوعات(11)
1- التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.
2- خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.
3- إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.
4- وصف الجنة ونعيمها.
5- قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.
6- دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا: الملائكة بنات الله.
7- تنزيه الله عن ذلك.
8- بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوي الأحلام الضعيفة المستعدة للإضلال.
9- وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
10- مدح المرسلين وسلام الله عليهم.
11- حمد الله وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.



حادى عشر : بعض الدروس المستفادة

في هذه السورة الكريمة من الدروس التربوية والفوائد الدعوية الكثير... والتي نقتطف منها ما يلي:
1- في قوله تعالى:
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الآية 10].
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي اختلس الكلمة {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء {ثَاقِبٌ} أي مضيء. كأنه يثقب الجوّ بضوئه.
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء, فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب.
فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب؛ حيث يرميهم تعالى بها فيحرقهم.
قال ابن كثير: يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه.
ولهذا قال جل جلاله {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} أي: لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى، وهي السموات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره.
كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ 23].
قال بعض علماء الفلك: كما أن العرش تحفه الأرواح الغيبية فكذلك الكواكب الأخرى مسكونه مع الحيوانات والدواب بأرواح، منها الصالح (الملك) ومنها الطالح (الشيطان) وكذلك أرضنا هذه.
ففيها من الملائكة ومن الشياطين ما نبصره {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف، 27].
ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود, فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها.
كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي نشاهد الآن آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم.
فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه.
وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس، تموت في الحال.
وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء والاختلاط بأرواح التي في الكواكب الأخرى، انقضّ عليها، قبل أن تخرج من جو الأرض، شهاب من هذه الكواكب أو من غيرها، فأحرقها وأهلكها، بإفساد تركيبها ومادتها، حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى،
وهذه الشهب التي تنقض، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة، كانت ملتهبة, وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة، التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في وجونا هذا.
ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إليه هذه الشهب ويتحدُ بها, كما تجذب العناصر الكيماوية بعضها بعضاً "مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله"
ولا نقول إن جميع الشهب تنقض لهذا السبب، بل منها ما ينقض لأسباب أخرى, كأجتذاب بعض الأجرام السماوية له, ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين، كما بينّا هنا.
والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر، 27].
والمراد بالسماء الدنيا في هذه الآية: الفضاء المحيط بنا القريب منا, أي هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها.
أما ما وراءه من الأجواء البعيدة عنا، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه.
فلفظ (السماء) له معان كثيرة, كلها ترجع إلى معني السمو, وتفسر في كل مقام بحسبه.
ثم قال: فكل مسألة جاء بها القرآن، حق، لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها؛ لأنه وحي الله حقا، والحق لا يناقضه الحق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت 53].
وقال أيضاً: يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب, ويحتمل أن بعضها ناشيء من بعض الشموس المنحلة، أو الباقية الملتهبة، أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفيء من السيارات للآن.
ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعاً مشتقة من الشموس: كان مصدر جميع الشهب هو الشموس أو النجوم.
(قال) : وهذا يفهمنا معنى هذه الآية.
ونظير هذه الآية قوله تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك 5], وقوله عز وجل {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} [الحجر 16، 18].
وقوله سبحانه إخباراً عن الجن {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا} [الجن، 98].
2- في قوله تعالى {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الآية 113].
عدة تنبيهات:(4)
الأول ـ يروي المفسرون ههنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصح سندها ولا متنها:
بل لم تحسن،
فهي مُعْضَلَة تنتهي إلى السّدّي وكعب.
والسدّي حاله معلوم في ضعف مروياته.
وكذلك كعب.
قال ابن كثير رحمه الله: لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً: فربما استمع له عمر.
فترخص الناس في استماع ما عنده عنه، غثها وسمينها.
وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده.
ولقد صدق رحمه الله.
ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له، إلا إذا صح سنده، أو اطمأن القلب به.
وقد وَلَع الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين. ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها وكون متنها منكراً أيضاً أو موضوعاً.
ولما صَـنَّـفْتُ مجموعة الخطب حذفت هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات، واقتصرت على جياد الأخبار والآثار.
وذلك من فضل الله علينا فلا نحصى ثناء عليه.
وأمثل ما روي في هذا النبأ من الآثار: ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا، قال: لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك، عرض له الشيطان عند السعي, فسابقه, فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة.
فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب.
ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات.
ثم تله للجبين، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض.
فقال له: يا أبت ! إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره، فاخلعه حتى تكفنني فيه:
فعالجه ليخلصه،
فنودي من خلفه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين.
قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش.
الثاني ـ قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن، وتقديم المشيئة في كل قول.
واستدل بعضهم بهذه القصة على من نذر ذبح ولده، لزمه ذبح شاه.
ثم قال السيوطي: فسّر الذبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش. فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل.
الثالث ـ استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه ـ كما ذكره الرازي ـ في باب الإبتلاء, أي إبتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه، فيما يشق على النفس تحمله.
الرابع ـ يذكر كثير الخلاف في الذبيح.
قال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد): وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول:
هذا القول إنما متلقي من أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم.
فإن فيه أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه (بكره), وفي لفظ (وحيده)
ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده.
والذي غرّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم اذبح ابنك إسحاق)
قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم, لأنها تناقض قوله (بكرك وحيدك)
ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختارونه دون العرب.
ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.
وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبإبنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} [هود 70، 71].
فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه.
ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة.
فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد.
وهذا ظاهر الكلام وسياقه.
فإن قيل: لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحق.
قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به, لأن البشارة قول مخصوص, وهي أول خبر سار صادق.
وقوله {وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} جملة متضمنة بهذه القيود، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية, أو لما كانت البشارة قولاً كان موضوع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول.
كأن المعني: وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب
والقائل إذا قال: بشرت فلاناً بقدوم أخيه، وثقله في أثره، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعاً.
هذا مما لا يستريب ذوفهم فيه البتة.
ثم يضعف الجر أمر آخر.
وهو ضعف قولك (مررت بزيد ومن بعده عمرو) لأن العاطف يقوم مقام حرف الجر، فلا يفصل بينه وبين المجرور, كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور،
ويدل عليه: أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة، قال {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الآيات، 103-111].
ثم قال {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الآية، 112]
فهذا بشارة من الله له، شكراً على صبره على ما أمر به.
وهذا ظاهر جداً في أن المبشر به غير الأول.
بل هو كالنص فيه.
فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته, أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله، جزاه الله على ذلك، بأن أعطاه النبوة.
قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده، وأن يكون نبياً.
ولهذا ينصب (نبياً) على الحال المقدر أي مقدارً نبوته.
فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة.
هذا محال من الكلام.
بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى،
وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة،
ولذلك: جعلت القرابين يوم النحر, كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله.
ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة، دون إسحق وأمه.
ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل.
وكان النحر بمكة: من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زماناً ومكاناً.
ولو كان الذبح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم: لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.
وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليماً؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه.
ولما ذكر إسحق سماه عليما فقال تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات 24، 25] إلى أن قال {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات 28]
وهذا إسحق بلا ريب،
لأنه من امرأته وهي المبشرة به.
وأما إسماعيل فمن السرية.
وأيضاً فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد.
وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك،
وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده.
وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته،
والله تعالى قد اتخذه خليلاً.
والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها.
فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد: جاءت غيرة الخلة تنزعها من قلب الخليل, فأمره الجليل بذبح المحبوب.
فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد: خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة.
إذْ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه.
وقد حصل المقصود، فنسخ الأمر، وفدى الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب.
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار: إنما حصل عند أول مولود.
ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول.
بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة، ما يقتضي الأمر بذبحه.
وهذا في غاية الظهور.
وأيضاً فإن سارة امرأة الخليل: غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة.
فإنها كانت جارية.
فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيره سارة.
فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة، ليبرد عن سارة حرارة الغيرة.
وهذا من رحمته ورأفته.
فكيف يأمره سبحانه بعد هذا، أن يذبح ابنها، ويدع ابن الجارية بحاله هذا, مع رحمه الله لها وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها؟
فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية؟
بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها، وأن الله لا يضيع بيتاً، هذه وابنها منهم.
ويرى سبحانه عباده: جبره بعد الكسر، ولطفه بعد الشدة, وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة, والتسليم إلى ذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه، من جعل آثارهما وموطيء أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة.
وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره.
قال تعالى {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص 5].
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَــن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيــمِ} [الحديد 21].
وقال السيوطي في (الإكليل): واستدل بقوله تعالى بعد {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ} [الصافات 112]. من قال إن الذبيح إسماعيل.
وهو الذي رجحه جماعة.
واحتجوا له بأدلة.
منها
وصفه بالحلم
وذكر البشارة بإسحق بعده.
والبشارة بيعقوب من وراء إسحق.
وغير ذلك.
وهي أمور ظنية لا قطعية.
ثم قال: وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه ـ ولم أرمن سبقني إلى استنباطه ـ وهو أن البشارة وقعت مرتين.
مرة في قوله {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات، 99-102].
فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح.
ومرة في قوله {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ} [هود، 71].
فقد صرح فيها أن المبشر به إسحق.
ولم يكن بسؤال من إبراهيم.
بل قالت امرأته إنها عجوز، وإنه شيخ.
وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره.
أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام، حين كان لا يستغرب فيه الولد، ولذلك سأله.
فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين، بغلامين.
أحدهما بغير سؤال، وهو إسحق صريحاً.
والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره.
فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح . انتهى.(4)
3- في قوله تعالى {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الآيتان 165، 166].
روى ابن جرير عن الوليد بن عبد الله قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} فصفوا.
وقال أبو نضرة: كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم، استقيموا قياماً، يريد الله بكم هدى الملائكة.
ثم يقول {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.(11)
وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة, وجعلت لنا الأرض مسجداً, وتربتها لنا طهوراً.(12)
4- في قوله تعالى {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الآية 177].
روى الشيخان(13) عن أنس رضي الله عنه قال: صبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم خبير.
فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش..!!
رجعوا وهم يقولون: محمد والله! محمد والخميس.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خرجت خيبر (إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
دل تمثله صلى الله عليه وسلم بالآية على شمولها لعذاب الدنيا، أولاً وبالذات.
5- في قوله تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الآية 180].
قال ابن كثير: لما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص، بدلالة المطابقة, ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال المطلق مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص ـ قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن.
ولهذا قال تبارك وتعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآيات.
وروي ابن أبي حاتم عن الشعبي مرسلاً: من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه، حين يريد أن يقوم: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآيات.
وروى أيضاً عن علّى موقوفاً.
وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم مرفوعاً: من قال دبر كل صلاة {سُبْحَانَ رَبِّكَ} الآيات، ثلاث مرات، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر.
وقد بين الرازي أن خاتمة هذه السورة الشريفة جامعة لكل المطالب العليا فارجع إليه.(4)



ثانى عشر : مصادر المفاتيح و هوامش البحث

1- انظر: السخاوي / جمال القراء 1/37
الفيروزابادي / بصائر ذوي التمييز 1/393
البقاعي / نظم الدرر "تفسير سورة الصافات"
القاسمي / محاسن التأويل "تفسير سورة الصافات"
2- انظر: الفيروزابادي / مصدر سابق "تفسير سورة الصافات"
3- انظر: البقاعي / مصدر سابق "تفسير سورة الصافات"
4- انظر: القاسمي / مصدر سابق "تفسير سورة الصافات"
5- انظر: مكي بن أبي طالب / التبصرة ص309
السخاوي / جمال القراء 1/213
الفيروزابادي / بصائر 1/393
الآلوسي / روح المعاني "تفسير سورة الصافات"
محمد غوث / نتثر المرجان 6/2
6- انظر: فضل سورة البقرة.
7- رواه: النسائي، كتاب: الإمامة، باب: الرخصة للإمام في التطويل
ابن حبان، كتاب: الصلاة، باب صفة الصلاة
وغيرهما
والحديث: إسناده حسن كما في التقريب ص 146
وكذلك: صححه الشيخ أحمد شاكر، في تعليقه على المسند 7/16
8- انظر: المراغي / تفسير المراغي "تفسير سورة الصافات"
9- انظر: الشهيد/ سيد قطب في ظلال القرآن "تفسير سورة الصافات"
10- انظر: سعيد حوي / الأساس "تفسير سورة الصافات"
11- انظر: ابن جرير / جامع البيان 23/112 ط الحلبي
12- رواه: مسلم.. كتاب "المساجد ومواضع الصلاة"
13- أخرجه.. البخاري .. كتاب الآذان، باب: ما يحقن بالآذان من الدماء، مسلم.. كتاب النكاح.



فضيلة الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر

ليست هناك تعليقات:

« كَفَّارَةُ المَجْلِسِ »

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ » .