إرادة على طريق التنفيذ
إرادة على طريق التنفيذ |
|
الكاتب الأستاذ الدكتور / طه حبيشي إرادة على طريق التنفيذ
ولقد روى الله لنا قصة بداية الخلق أو قصة آدم الأول في القرآن الكريم في أكثر من موضع مفصلة مرة ومجملة أخرى، وهي في تفصيلها وإجمالها تعطي العقل الإنساني ثراء علمياً ، وإحساساً مقدساً بكيانه في حالة من الاعتزاز والشموخ والكرامة والفخار.
ولم يشأ القرآن أن يحدثنا عن كيفية الخلق الأول مباشرة ، ولكنه أراد أيضاً أن يحدثنا عن التمهيدات التي طبع الله الكائنات في الكون بها، والتي تنبئ عن مخلوق جديد سيكون له من الصفات والشمائل ما يخالف بها صفات وشمائل الكائنات الموجودة بالفعل.
ورب العزة لم يشأ في وقت من الأوقات أن يفاجئ الكون بحدث دون أن يعطي له مقدمات وتمهيدات تبشر بوقوع الحدث وتنبئ عن تغيير سوف يحدث على ظهر الأرض أو في الفضاء أو في كبد السماء (1) " ومن هذا القبيل فإن المخلوق الجديد آدم يعتبر حدثاً في هذا الكون لم تتعوده الكائنات الموجودة فعلاً، وطبقاً للرحمة الإلهية فإنه لابد من تمهيد ينبئ عن شمائل القادم الجديد.
ولو أننا تأملنا الخطاب الموجه من الله للملائكة قبل خلق آدم في إطار هذه القاعدة السالفة الذكر لأمكن لنا أن نتصور كيف مهد الله لخلق آدم، قبل خلق آدم عليه السلام تحدث الله إلى ملائكته حول هذا المخلوق الجديد، ونحن نعرف من صفات الملائكة أنهم "عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" ولم يثبت في تاريخ الأديان أن الملائكة كما ناقشوا أو وازنوا بين أمرين موازنة عقلية أو منطقية، وإنما هم يؤمرون فيطيعون ويتوجه إليهم الله بالخطاب فلا يترددون ولا يتلكئون حتى كأن الطاعة بالنسبة للملك هي عنصره الجوهري بحيث لو ارتفعت عنه فقد صفته الذاتية كملك، ولكنهم هذه المرة قد وازنوا بين مشروع الإرادة الإلهية في الخلق الأول، وبين تجارب الماضي في الكون الذي سيشاطرهم المخلوق الجديد إياه ، قالوا ولأول مرة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " رداً على قول الله لهم فيما يحكيه رب العزة : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وليس عندنا ريب ولا شك في أن الله قد شاء أن توازن الملائكة هذه الموازنة، وأن يجيبوا بهذه الإجابة طبقاً لقاعدة الرحمة الإلهية التي ذكرناها سلفاً والتي تقتضي أن يمهد الله لهذا الحدث الجديد بالكشف عن بعض طباعه وشمائله، ومن بعض طباع الإنسان وشمائله أنه مجادل موازن وأنه متردد مرتاب، وأنه لا يصدق إلا بعد الموازنة والاستدلال، فهو الذي يقول الله عنه فيما بعد : " وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " وهو الذي لا يصدق إلا بدليل ولا يقتنع إلا باليقين، وقد مهد الله لذلك حين علم آدم الأسماء كلها ومسمياتها ثم عرضهم على الملائكة فقال : "أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا " فطلب لآدم أن يعلمهم ليقتنعوا وأن ينبئهم كي لايرتابوا : " قلنا يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم " ذكرهم الله بجزء من المناقشة الماضية قبل خلق الإنسان قال: "ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون" وبهذا اللون من التعبير تبين لنا بعض شمائل الإنسان ذلك المخلوق الجديد الذي سيكون خليفة الله في أرضه فيما يستقبل من الزمان أو يأتي من العصور.
استدراك : ـ
وحين يفرغ الإنسان من سماع خطاب الله للملائكة الذي يتعلق بخلق آدم المحتوم يتحرك في داخله استفسار عقائدي مشروع مؤداه : أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الكون وهو ملكه ـ بضم الميم ـ وملكه ـ بكسر الميم ـ يتصرف فيه طبقاً لإرادته بالزيادة والنقص وبالإسعاد والإشقاء دون أن يسأل عن شئ من ذلك بلم أو كيف " لا يسأل عما يفعل وهو يسألون" ، " يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " إلى آخر هذه الآيات والنصوص التي تعبر عن طلاقة الإرادة والقدرة الإلهيتين.
وفي ضوء هذه المسلمة يمكن للمسلم أن يتساءل : ما هي حقيقة هذا الخطاب الإلهي للملائكة في مشروع كهذا المشروع الإلهي ؟ إن الإرادة الإلهية والقدرة كلتيهما غير محتاجة إلى مشورة مخلوق ناقص، أو إلى الاستناد إلى رأي كائن لا يقدر على مشورة كهذه ولا تتسامى مشورته إلى هذا المستوى القدسي.
تلك وساوس يمكن أن يلقيها الوهم في عقل الإنسان وتتسرب إلى وجدانه،ولو رجعنا إلى النص الكريم لوجدنا أن فكرة مشورة الله للملائكة مرفوضة بسياق النص ذاته؛ فالمشورة إنما تعني أن من يطلبها متردد في أخذ قرار بعينه ويريد أن يستضئ برأي غيره فيه ؛ والنص الإلهي يقول : "إني جاعل في الأرض خليفة " أي أن الإرادة ـ تعلقت بالفعل بهذا المخلوق المرتقب قبل أن يعرض هذا الأمر على الملائكة ، وبذلك تسقط فكرة المشورة من أساسها لغياب العنصر الجوهري فيها وهو التردد من قبل المستشير.
غير أن تحليل النص على هذا النحو لم يحل المشكلة العقائدية عند من تثار هذه المشكلة في ذهنه، إذ إن السؤال ما يزال قائما وإن كان بأسلوب جديد، ويمكن صياغته صياغة جديدة على النحو التالي : إذا كان عرض الخطاب على الملائكة ليس للمشورة كما هو مفاد النص فما هي الفائدة منه إذن ، وما هو النعت الحقيقي اللائق به ؟
ولو أننا تأملنا ما سطرناه سلفاً لاتضح لنا أننا نميل كل الميل إلى أن خطاب الله للملائكة ورد الملائكة على هذا الخطاب كان تمهيداً وتبشيراً بشمائل هذا المخلوق الجديد، ونحن لا نستطيع أن نخفي تحمسنا الشديد لهذه الفكرة غير أننا يمكن أن نضيف إليها بعض الأجوبة الطريفة التي قالها أسلافنا من الأساتذة الأجلاء، ومن هذه الأقوال الطريفة ما ذكره الفخر الرازي قال بعد أن صاغ القضية على النحو السالف ذكره، وذكر بعض الردود عليها : (الوجه الثاني: أنه تعالى علم عباده المشاورة ) (1).
وفي بعض ما يروى عن أسلافنا آراء ربما لا يستريح الإنسان إليها لأنها لا توافق الطبع العام للملائكة أساساً، ولا توافق السياق العام الذي يذكره القرآن عنه، ومن بين هذه الآراء الرأي القائل : ( أنه تعالى علم أنهم إذا اطلعوا على ذلك السر أو ردوا عليه ذلك السؤال فكانت المصلحة تقتضي إحاطتهم بذلك الجواب فعرفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السؤال ويسمعوا ذلك الجواب)(2).
وننتهي من مناقشة هذه القضية إلى اختيار أن الخطاب كان أمراً اقتضته الإرادة الإلهية للإبانة عن بعض طباع الكائن الجديد من جهة، ولتعليم بني آدم كيفية الحوار الذي لا يصل إلى حد المراء من جهة أخرى.
========================
عقيدتنا |
 |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق