ترجيح طريقة الاختيار |
وحيث قد ذكرنا أن طريقة الاختيار أولى في نظري من طريقة العهد، وطريقة التغلب على السلطة بالقوة، فلابد من ذكر أمور نرجح بها هذه الطريقة: الأمر الأول: أن اجتماع أهل الحل والعقد وأهل الفضل والصلاح وتشاورهم في اختيار الإمام من أروع صور الشورى بين المسلمين، وإن لم يكن هذا هو عين الشورى فماذا يكون؟ وأضيف إلى هذه الحقيقة أن يكون الاختيار أساسه الشورى كان هو رأي عمر نفسه، فقد روى عنه عبد الرزاق في «المصنف» أنه قال: «الإمارة شورى»، وروى عنه بسند قوله: «من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير شورى من المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه» وروى عنه ولده عبد اللَّه بن عمر أنه قال لأهل الشورى قبل وفاته: «من تأمر منكم من غير شورى من المسلمين فاقتلوه». وإذا كانت الشورى هي طريقة اختيار الحاكم فإن ذلك يعني أن الأمة يجب أن يكون لها رأي فيمن يتولى شئون الحكم في الدولة الإسلامية، فمسئولية الاختيار راجـعة إلى الأمة نفسها، وقد كان حكم عمـر بن الخطاب ـ رضي اللَّه عنه ـ في ذلك واضحًا حين قرر أن من حاول أن يفرض نفسه أو غيره دون رضا المسلمين المبني على مشاورتهم ـ وجب أن يعاقب عقاب المفسدين في الأرض «فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه». وليس في أصول الإسلام ـ القرآن والسنة ـ ولا في المأثور عن الصحابة ـ رضي اللَّه عنهم ـ أن هناك وسيلة معينة لإجراء هذه الشورى، ولا نظامًا محددًا لتطبيقها؛ وذلك لأن هذا الأمر مما لا يجوز حمل الناس بشأنه على طريقة واحدة لا تتغير وإنما يجب أن تراعى فيه ظروف الزمان والمكان، وليس أدل على صحة هذا الفهم من أن أسلوب الشورى التي سبقت اختيار كل واحد من الخلفاء الأربعة الراشدين كان مختلفًا تأثرًا بالظروف التي سبقت وعاصرت اختيار كل خليفة، وقد تختلف أساليب الشورى وتتعدد صورها ويبقى مع ذلك الهدف واحدًا وواضحًا، وليس ثمة جدال في أن أسلوب الشورى اليوم لا يمكن أن يتفق مع أي من الأساليب التي اتبعت في اختيار الخلفاء الراشدين لكن ذلك ليس هو الأمر الأساس، إنما الأمر الأساس أن لا تفقد الأمة حقها في اختيار حاكمها وأن تمارس حقها في الشورى في ظل مختلف الظروف . الأمر الثاني: أن الطريقة التي تم فيها عقد الإمامة لخليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأول رئيس للدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالاختيار أعني: عقد الإمامة لأبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه فقد اجتمع الصحابة رضوان اللَّه عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة وقبل أن ينظروا في أي شيء في سقيفة بني ساعدة للنظر في اختيار من يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في قيادة الأمة، وجرى التداول بينهم في هذا الشأن، فتعددت الاقتراحات، واختلفت الآراء فيمن يكون رئيسًا للدولة، فالأنصار يرون أنهم أحق بها لأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروه وأيدوه في دعوته وبذلوا في سبيل نصرته كل غال ونفيس، والمهاجرون يرون أنهم أحق بها؛ لأنهم قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من اتبعه وهاجر معه وترك الأهل والوطن في سبيل نصرته صلى الله عليه وسلم ولما كان الهدف من ذلك الاجتماع وتلك الاقتراحات هو التوصل إلى ما فيه صلاح الأمة ـ وانتظام شأنها ـ اتفق المجتمعون على ترشيح أبي بكر الصديق واختياره إمامًا وخليفة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولقد أجمع المسلمون عدا الرافضة على أن أبا بكر الصديق هو أولى الأمة بخلافة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلا أنه جرى خلاف بينهم: هل كان عقد الإمامة له بالاختيار أو بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالقول المختار في هذه المسألة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد بالخلافة لأحد لا لأبي بكر، ولا لغيره، وإنما الصحابة ـ رضي اللَّه عنهم ـ نظروا فوجدوا خيرهم وأفضلهم وأحبهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فاتفقوا على اختياره من بينهم، وقلدوه أمورهم، فهذا الرأي هو الذي عليه اتفق المحققون من أهل التواريخ والسير. ومن أقوى ما يستدل به على هذا الرأي أن عقد الإمامة كان بالاختيار وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد له بها ـ اختلاف الصحابة فيمن يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان متقررًا لدى كل مسلم أن الصحابة ـ رضوان اللَّه عليهم ـ لا يعارضون أمرًا له صلى الله عليه وسلم، فلو كان قد عهد بالخلافة لأبي بكر لما وقع الخلاف المتقدم بينهم. يوضح هذا أنه لما روي قوله صلى الله عليه وسلم:«الأئمة من قريش» انصاع لهذا النص الجميع، وسلموا ولم يبق في نفس أحد شيء من عقد الإمامة لأبي بكر الصديق، وقد روى عبد اللَّه بن عمر ـ رضي اللَّه عنهما ـ أنه قال: «لما أصيب عمر قيل له: استخلف يا أمير المؤمنين؟ قال: إن أستخلف فلقد استخلف من هو خير مني ـ يعني: أبا بكر ـ وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني ـ يعني: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ـ»(56) . وهذا نص صريح من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي اللَّه عنه ـ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوص لأبي بكر بالخلافة، وقد روي عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها سئلت: «من كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟» ، وهذا يوضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أي أحد ولم يعهد لأحد بالخلافة. وأهل الرأي الثاني يذهبون إلى أن عقد الإمامة لأبي بكر كان بعهد ووصية من الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا يتنافى مع ما قدمت من أدلة، وما يحتج به أهل هذا الرأي من أدلة يزعمون أنها تدعم قولهم وتؤيده فسأناقشها بعد عرضها وأبين أنها لا تدل على ما ذهبوا إليه. ============== انظر : * الجامع لأحكام القرآن *منهاج السنة النبوية *فتح الباري |
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
الأحد، 11 ديسمبر 2011
ترجيح طريقة الاختيار
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق