إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

سبحان الله والحمد لله والله أكبر

الخميس، 24 نوفمبر 2011

مفاتيح سورة الأحزاب

مفاتيح سورة الأحزاب
أولاً:اسم السورة
وهذه السورة.. تسمى بـ:
1- سورة الأحزاب:(1)
وذلك: لاشتمالها على قصة حرب الأحزاب، في قوله تعالى {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا...} [الآية، 20].
خاصة: وأن قصتها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متضمنه لنصره بالريح، بحيث كفى الله المؤمنين القتال، وقد بها بين المؤمنين والمنافقين.



ثانياً : عدد آيات السورة و كلماتها و حروفها

آياتها:(2) (73) ثلاث وسبعون آية.
وكلماتها: (1280) ألف ومائتان وثمانون كلمة.
وحروفها: (5796) خمسة آلاف وسبعمائة وستة وتسعون حرفاً.



ثالثاً : ترتيب السورة فى المصحف و فى النزول

أ‌- في المصحف.. بعد سورة "السجدة"، وقبل: سورة "سبأ".
ب‌- في الترتيب.. بعد سورة "آل عمران" وقبل: سورة "الممتحنة".(3)



رابعاً : سبب نزول السورة

لم نعثر على آثار في ذلك تفيد سببها لنزولها كلها.
بَيْدَ أن هناك من الآثار الصحيحة ما يدل على أسباب لنزول بعض آياتها.
ونكتفي بذكر سبب نزول أولها فعن ابن عباس أنه قال:(4)
أن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}.



خامساً : مكية السورة و مدنيتها

هذه السورة: مدنية.



سادساً : فضل السورة

لم نعثر على آثار صحيحة في فضل هذه السورة.. سوى حديث (وائلة بن الأسقع) حيث إنها من قسم المثاني.
ومن أراد مراجعة الحديث: فلينظره في فضل سورة البقرة.



سابعاً : صلة السورة بما قبلها

تشابه مطلع الأحزاب مع خاتمة السجدة قبلها.(5)
فإن سورة السجدة: ختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم، في قوله تعالى {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} [الآية، 3].
والأحزاب: بدئت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، وإتباع ما أوحي إليه، من الله عز وجل.
وبين الخاتمة والمطلع من التناسب: ما لا يخفى.



ثامناً : هدف السورة

تهدف سورة الأحزاب إلى:
1- فهم التقوى، والالتزام بها.
2- تعرفنا كيف نتعامل مع الأحداث، والمحن.
3- تحدد أطر المجتمع المسلم والأخلاقيات العليا لأفراده.
4- تذكر الإنسان بمحاسبة نفسه، وأن يكون على ذكر الله، مسلّم له تعالى.
5- كما أنها(5) تَحُثُّ على الصدق والإخلاص في التوجه إلى الخالق، من غير مراعاة بوجه ما للخلائق، لأنه عليم بما يصلحهم، حكيم فيما يفعله.
فهو الذي يعلى من يشاء، وإن كان ضعيفاً، ويردي من يريد، وإن كان قوياً.
لذلك: فلا يهتمن الماضي لأمره, برجاء لأحد منهم في بره، ولا خوف منه في عظيم شره، وخفي مكره.



تاسعاً : تقسيم آيات السورة موضوعيا

تتكون هذه السورة من عشرة أقسام.(7)
ويلاحظ جيداً: أن كل قسم منها يبدأ بصيغة النداء (يا أيها)، إما (يا أيها النبي) وإما (يا أيها الذين آمنوا)
كما يلاحظ: أن هذين الندائين.. يتناوبان في السورة تناوباً مطرداً، إلا في آخر السورة.. إذْ تتكرر (يا أيها الذين آمنوا) مرتين.
وعلى هذا: فكل بداية بـ (يا أيها) سنعتبرها قسماً مستقلاً.
إلا في الندائين الأخيرين, فسنعتبرهما قسماً واحداً.
وهذه هي الأقسام العشرة:
القسم الأول: عبارة عن (8) آيات.
من الآية الأولى ... وحتى نهاية الآية (8).
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها النبي)
وفيه: مجموعة الأوامر التي صدرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأمته من خلال شخصه الكريم.
وهي: التي تحدد الطريق العملي للسلوك.
وهي:
التقوى.
وترك طاعة الكافرين والمنافقين.
وإتباع الوحي... وهو: الكتاب والسنة.
والتوكل على الله تعالى.
ويلاحظ: أن الصلة بين هذه الأوامر واضحة.
فالتقوى: لا تكون مع طاعة الكافرين والمنافقين؛ إنْ الكافرون والمنافقون: يرغبون في أن يحرفوا المؤمنين.
والتقوى، وترك طاعة الكافرين والمنافقين، وإتباع الوحي: كلها تحتاج إلى توكل على الله، وتفويض أمر له، ومعرفة به، ومن ثم: جاء الأمر بالتوكل.
وإذا استقرت هذه الأمور: جاءت في هذا القسم الأحكام.
القسم الثاني.. عبارة عن (11) آية
من الآية (9) حتى نهاية الآية (19)
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا)
وفيه: بيان فضل الله على المؤمنين في ساعات المحنة.
وفي ذلك: نوع تذكير على أنه على المؤمنين أن يطيعوا ويطمئنوا، فالله معهم إن كانوا صادقين.
وقد رأينا من خلال هذا التذكير: مظهراً من مظاهر الوفاء بالعهد، ومظهراً من مظاهر نقضه.
كما رأينا: مظهراً من مظاهر النفاق، ومظهراً من مظاهر الإيمان.
ورأينا ـ ثالثاً ـ الطريق العملي للتحقق بكمال الإيمان.. بذكر طريق القدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأينا ـ كذلك ـ صورة عملية للامتحان الشديد الذي يعقبه نصر.
ورأينا صورة عملية للتوكل الصحيح.
القسم الثالث.. عبارة عن (13) آية.
من الآية (28) حتى نهاية الآية (40)
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها النبي).
وفيه:
الذكر التفصيلي لأخلاقيات أهل الإيمان.
ونلاحظ أولاً: أنه قد صدرت عدة أوامر للقدوة العليا للمسلمات، وهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وهي:
1- إرادة الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، والدار الآخرة.
2- التنزه عن الفواحش كلها.
3- عدم الخضوع بالقول واللين فيه، مع الكلم الطيب.
4- القرار في البيوت، إلا لحاجة مشروعة.
5- عدم التبرج.
6- إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
7- الطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم.
8- ذكر الكتاب والسنة.
وإذا استقرت هذه المعاني : تأتي آية تتحدث عن الصفات العليا للرجل والمرأة.
وهي: الصفات التي يستحق بها أهلها مغفرة الله وجنته.
وهكذا .. يرفع هذا القسم: الرجل والمرأة إلى ذرى التقوى، بالدلالة على الطريق.
ثم تأتي ـ بعد ذلك ـ آية: تبين مظهراً من مظاهر هذا الإسلام.
القسم الرابع.. عبارة عن (4) آيات.
من الآية (41) حتى نهاية الآية (44).
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا)
وفيه:
الأمر بالذكر الكثير؛ حيث إن ذلك هو الطريق لصلاة الله علينا.
وهذا: بيان للطريق العملي، الذي ينبغي أن يسلكه راغب الهداية، لينأى عن الضلال.
كما أن الذكر الكثير: طريق الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واحد من صفات المسلمين.
القسم الخامس... عبارة عن (4) آيات.
من الآية (45) حتى نهاية الآية (48)
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها النبي)
وفيه:
الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: بأنه شاهد، وبشير، ونذير، وداع إلى الله بإذنه، وسراج منير.
وبعد هذا الخطاب: يأمره بتبشير المؤمنين، ومقاطعة الكافرين والمنافقين.
القسم السادس.. عبارة عن (آية واحدة).
وهي الآية (49)
وفيها: نموذج على إضاءة هذا الإسلام للإنسان طريقه في كل شيء.
وذلك: من خلال حكم من أحكام الإسلام، تسوقه، ويدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم السابع.. عبارة عن (3) آيات.
من الآية (50) حتى نهاية الآية (52)
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها النبي)
وفيه:
هدم لما يتصوره كثير من الناس.. من أن الزواج يتنافى مع العبادة، بل هدم لما يزعمه بعضهم من أن الزواج يتنافى مع مقام "عالم الدين".
وقد جاء هذا القسم بهدم هذه المزاعم هذه المزاعم في سورة تهدِّم الكثير من عادات الجاهلية وأفكارها.
وبذلك: بين هذا القسم أحكاماً من أحكام الله ينبغي الإيمان بها، والتسليم لها.
القسم الثامن.. عبارة عن (6) آيات.
من الآية (53) حتى نهاية (58).
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا)
وفيه:
حديث عن آداب المؤمنين مع بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أزواجه الطاهرات.
القسم التاسع.. عبارة عن (10) آيات
من الآية (59) حتى نهاية الآية (68).
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها النبي)
وفيه:
الأمر للمؤمنات في وجوب الستر، والستر في المجتمع الإسلامي: ضروري لإقامة التقوى عند الذكور والإناث.
وفيه كذلك:
التهديد للكافرين والمنافقين، الذين لا همّ لهم إلا نشر الفاحشة والفجور والإشاعات.
القسم العاشر... عبارة عن (5) آيات.
من الآية (69) حتى نهاية الآية (73) وهي خاتمة السورة.
وهو: يبدأ بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا)
وفيه:
النهي عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالتقوى، والقول السديد، ووصف الإنسان بالظلم والجهل.
ويلاحظ: أن مجيء الأمر بالتقوى والقول السديد، بعد النهي عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم.. يوحي بأننا مطالبون بشيئين: ترك الكلام المؤذي، وقول الكلام السديد، وذلك بصفة عامة.



عاشراً : أبرز موضوعات السورة

ومجمل ما حوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد.. هو:(8)
1- الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين.
2- وجوب إتباع ما ينزل به الوحي مع ضرب المثل لذلك.
3- إبطال العادة الجاهلية وهي إعطاء المتبنّي حكم الابن، وبيان أن الدين منه براء.
4- إبطال التوريث بالحلف والتوريث بالهجرة، وإرجاع التوريث إلى الرحم والقرابة.
5- ذكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم في وقعة الخندق بعد أن اشتد بهم الخطب.
6- تخيير النبي نساءه بين شيئين: الفراق إذا أردن زينة الحياة الدنيا, أو البقاء معه إذا أحببن الله ورسوله والدار الآخرة.
7- التشديد عليهن بمضاعفة العذاب إذا ارتكبن الفواحش ، ونهيهن عن الخضوع في القول وأمرهن بالقرار في البيوت، وتعليمهن كتاب الله وسنة رسوله، ونهيهن عن التبرج.
8- قصة زينب بنت جحش وزيد مولى رسوله صلى الله عليه وسلم.
9- ما أحل لنبيه من النساء وتحريم الزواج عليه بعد ذلك.
10- النهي عن إيذاء المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا بيته لطعام ونحوه.
11- الأمر بكلام أمهات المؤمنين من وراء حجاب إذا طلب منهن شيء إلا الآباء والأبناء والأرقاء.
12- أمرهن بإرخاء الجلباب إذا خرجن لقضاء حاجة.
13- تهديد المنافقين وضعاف الإيمان والمرجفين في المدينة.
14- سؤال المشركين عن الساعة متى هي؟
15- النهي عن إيذاء النبي حتى لا يكونوا كبني إسرائيل الذين آذوا موسى.



حادى عشر : بعض الدروس المستفادة

1- في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا...} [الآية، 9].
هذه الآية وما بعدها: تسجيل لمعركة الأحزاب.
ويقول الأستاذ/ سعيد حوي:(7) ونلاحظ أن القرآن الكريم، سجل لنا.. معركة بدر، ومعركة أحد، وإجلاء بني النضير، ومعركة الأحزاب، وصلح الحديبية، وغزوة حنين، وغزوة تبوك.
وفي كل معركة عبرة رئيسية لهذه الأمة، إذْ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي النموذج الكامل لكل صور الحياة، التي تلابس سير الأمة الإسلامية.
فغزوة بدر: عبرتها الرئيسية: أن لله نصراً خاصاً ينزله على عبادة المؤمنين، إذا تحققوا بشروطه، ولو كانت الموازين العادية للنصر ليست متوفرة لهم.
وغزوة أحد.. عبرتها الرئيسية: أن أي إخلال بطاعة القيادة، يترتب عليه خلل.
وغزوة الأحزاب.. عبرتها الرئيسية: أنه متى تألب أعداء الله على المسلمين.. فإنه سيبعث لهم فرجاً من حيث لا يحتسبون، إذا ثبتوا وصدقوا.
وغزة حنين.. عبرتها الرئيسية: أن أي خلل نفسي تخرج به النفس الإسلامية عن ربانيتها، واعتمادها على الله وحدة، يؤدي إلى الهزيمة.
وغزوة تبوك.. عبرتها الرئيسية: أن المعلم عليه في كل حال أن يشارك في الجهاد مهما كان الوضع قاسياً.
وصلح الحديبية.. عبرته الرئيسية: أني يرى المسلم في قرار قيادته الإسلامية.. الحكمة، ويسلم له، ولو كان غير مرتاح له، أو مقتنع به.
2- في قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الآية، 33].
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس ... قال:
"جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن: يا رسول الله..!! ذهب الرجال، بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا من عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله..؟
فقال صلى الله عليه وسلم: من قعدت منكم في بيتها: فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله."
وروى البزار عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرقها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحه ربها وهي في قعر بيتها.
3- في قوله تعالى{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الآية، 39].
روى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمراً لله فيه مقال، ثم لا يقوله، فيقول الله ما يمنعك أن تقول منه؟ فيقول: رب خشيت الناس، فيقول: فأنا أحق أن يخشى منه".
4- في قوله تعالى {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الآية، 41].
روى أحمد
جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أحدهما: يا رسول الله..!! ... أي الناس خير...؟
قال: "من طال عمره وحسن عمله".
وقال الآخر: يا رسول الله ..!! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به".
قال "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله"
وروى أحمد:
أنه صلى الله عليه وسلم قال "أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون"
وروى أحمد عن عبد الله بن عمر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة."
5- في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الآية، 49].
قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة.(9)
منها إطلاق النكاح على العقد وحده. وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها.
وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال: واستعمال القرآن، إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية. فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تعالى {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}.
وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.
وقوله تعالى {الْمُؤْمِنَاتِ} خرج مخرج الغالب؛ إذا لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك، بالاتفاق.
وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المسيب والحسن البصري وزين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية، على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لقوله تعال {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فعقب النكاح بالطلاق, فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد وطائفة كثير من السلف والخلف. وأيّده ما روي مرفوعاً "لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك"(10).
وأيضاً ما روي عن علي والمِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم :"لا طلاق قبل النكاح"(11)
وقوله تعالى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها. فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت.
ولا يستثني من هذا إلا المتوفي زوجها, فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً, وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضاً.
وقوله تعالى {فَمَتِّعُوهُنَّ} المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها, قال تعالى {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة، 237]. وقال عز وجل {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة، 236].
وعن ابن عباس: إن كان سمى لها صداقاً، فليس لها إلا النصف وإن لم يكن سمى لها صداقاً، فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل.
وعليه:
فالآية في المفوضة التي لم يسم لها.
وقيل: الآية عامة, وعليه، فقيل الأمر للوجوب، وأنه يجب مع نصف المهر المتعة أيضاً, ومنهم من قال للاستحباب، فيستحب أن يمتعها مع الصداق بشيء.
6- في قوله تعالى {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [الآية، 52].
في قوله تعالى {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} دليل على جواز النظر من الرجل إلى التي يريد نكاحها من النساء.
ويدل عليه ما روى عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل.(12)
وروى مسلم عن أبي هريرة(13) أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً. قال الحميدي: يعني هو الصَّغر.
وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرت إليها؟ قلت: لا. قال: فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.(14)
7- في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الآية، 53].
هذا خطاب لبعض الصحب، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلى الله عليه وسلم بغير إذن.
كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام.
قال ابن كثير: أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول؛ فإن هذا مما يكره الله ويذمه.
وهذا دليل على تحريم التطفل, وهو الذي تسمه العرب الضيفن.
وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين, وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها.
وأقول:(9) قد يكون معنى قوله {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} نهياً لهم أن يدخلوا ـ مع كونهم مأذوناً لهم ومدعوين ـ قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه، عجلة وانتظاراً لنضج الطعام.
فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة، إلا ضيق صدر الداعي وأهله، وشغل وقته وتوليد حديث، وتكلف لكلام لا ضرورة له، وإطالة زمن الحجاب على نسائه.
وما ذلك إلى من شؤم التعجيل قبل الوقت.
ولذلك قال تعالى {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} أي إذا دعيتم إلى الدخول في وقته, فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده.
فـ (لكن) استدراك من النهي عند الدخول، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوى بتعليم أدب آخر, وإفادة شرط مهم، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حيناً ووقتاً يجب أن يراعى زمنه.
وهذا المنهي عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات، مما يغم نفس الداعي وأهله, ويذهب لهم جانباً من عزيز وقتهم عبثاً إلا في سماع حديثهم البارد, وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا.
فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة، وحكم مهم. وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر. ولذا قيل: إنها آية الثقلاء.
ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} أي تفرقوا ولا تمكثوا {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي لحديث بعضكم بعضاً، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له، حيث {إِنَّ ذَلِكُمْ} أي المنهي عنه في الآية {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أي لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه {فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} أي من الإشارة إليكم بالإنتشار {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء.
وفي هذه آية الحجاب التي أمر الله بها أمهات المؤمنين, بعد أن كان النساء لا يحتجبن.
وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن.
وفيها تحريم أذى النبي صلى الله عليه وسلم بسائر وجوه الأذى.
وقال ابن كثير: هذه آية الحجاب.
وفيها أحكام، وآداب شرعية.
وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه، كما روى البخاري(15) عنه أنه قال: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر, فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فأنزل الله آية الحجاب.
وكان يقول لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين.
وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى.
وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة (في قول قتادة والواقديّ وغيرها).
وزعم أبو عبيدة، معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط، أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم.
وروى البخارى(15) عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلى زينب بنت جحش، دعا القوم فطمعوا ثم جلسوا يتحدثون. فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا, فلما رأى ذلك قام, فلما قام، قام من قام وقعد ثلاثة نفر, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا فانطلقوا, فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أنطلقوا, فجاء حتى دخل, فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية.
ورواه مسلم(16) أيضاً والنسائي.
وعن أنس أيضاً قال: بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، بخبز ولحم, فأرسلت على الطعام داعياً, فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو. فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحداً أدعوه, قال: ارفعوا طعامكم, وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته, قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته, كيف وجدت أهلك؟ يا رسول الله ! بارك الله لك.
فتقرَّى حجر نسائه كلهن, يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة, ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون, وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء, فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة, فما أدرى آخبرته أو أخبر، أن القوم خرجوا. فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة، والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.
انفرد به البخاري.(15)
وأخرج نحوه مسلم والترمذيّ. كما بسطه ابن كثير.(9)
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به.
فهو فرض عليهن بلا خلاف، في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها, ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة.
ثم استدل بما في (الموطأ) أن حفصة لما توفى عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها.
وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يستر شخصهاً.
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن.
وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن.
وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعهن منهن الحديث، وهن مستترات الابدان لا الأشخاص.
ومما يؤيده ما رواه البخاري(15) في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفنها, فرآها عمر بن الخطاب, فقال: يا سودة! أماوالله! ما تخفين علينا, فانظرى كيف تخرجين.
قالت: فانكفات راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي, وإنه ليغشى وفي يده عَرْق, فدخلت فقالت: يا رسول..!! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا.
قالت: فأوحى الله إليه, ثم رفع عنه, وإن العَرْق في يده ما وضعه, فقال: إنه قد أُذِنَ لكن أن تخرجن لحاجتكن.
قال الكرماني: فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء ـ أي من البخاري ـ أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.
قال ابن حجر: قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من إطلاع الاجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب, ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً، ولو كن مستتراتن, فبالغ في ذلك فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعاً للمشقة، ورفعاً للحرج.
وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف، فآثرنا توسيع الكلام لتحقيق المقام.
زادنا الله من فضلة علما، إنه هو العليم العلام.
8- في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الآية، 56].
قال الرازيّ: لما أمر الله المؤمنين بالاستئذان وعدم النظر إلى وجوه نسائه احتراماً، كمّل بيان خرمته.
وذلك لأن حالته منحصرة في اثنتين: حالة خلوته وذكر ما يدل على احترامه في تلك الحالة بقوله {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} وحالة يكون في ملأ, والملأ إما الملأ الأعلى وإما الملأ الأدنى، أما في الملأ الأعلى فهو محترم, فإن الله وملائكته يصلون عليه, وأما في الملأ الأدنى فذلك واجب الاحترام بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
وقد روى البخاري(17) عن أبي العالية قال: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة, وصلاة الملائكة= الدعاء.
وقال ابن عباس: يصلون يبرّكون, أي يدعون له بالبركة.
فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخص منه.
وبالجملة: فالصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة على حسب ما أضيف إليه في التنزيل أو الأثر.
وقد أطنب الإمام ابن القيم في (جلاء الإفهام) في مبحث معاني الصلاة، وأطال فأطاب. فلينظر.
وفي البخاري(17) عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، أنه قيل: يا رسول الله! أما السلام عليك فقد عرفناه, فكيف الصلاة عليك؟
قال: قولوا: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد, اللهم! بارك على آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه، عن أبي مسعود البدري، أنهم قالوا: يا رسول الله! أما السلام فقد عرفناه, فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ فقال: قولوا: اللهم ! صل على محمد وعلى آل محمد, وذكره.
ورواه الشافعي في مسنده عن أبي هريرة بمثله.
ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله، على أنه يجب على المصلي: أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير, فإن تركه لم تصح صلاته.
ووافقه الإمام أحمد في روايةٍ.
وقال به إسحق ابن راهويه والإمام ابن المواز المالكي وغيرهم.
كما بسطه ابن القيم في 0جلاء الأفهام) وابن كثير في (التفسير) وقد تقصّياَ، عليهما الرحمة، أيضاً الروايات في الأمر بالصلاة وكيفيتها. فأوسعا. فيرجع إليهما.
تنبيهات:
الأول ـ تدل الآية على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً, لأن الأصل في الأمر للوجوب..
فذهب قوم إلى وجوبها في المجلس مرة, ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس.
وآخرون إلى وجوبها في العمر مرة واحدة, ثم هي مستحبة في كل حال.
وآخرون على وجوبها كلما ذكر.
وبعضهم إلى أن محل الآية على الندب.
قال ابن كثير: وهذا قول غريب..
فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة.
فمنها واجب
ومنها مستحب على ما نبينه.
فمنه بعد النداء للصلاة، لحديث (إذا سمعتم مؤذناً فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ) الحديث(18)
ومنه عند دخول المسجد لحديث (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم, ثم قال: اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك,(19) وإذا خرج صلى على محمد وسلم, ثم قال: اللهم! اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
ومنه الصلة، فتستحب على قول الشافعي في التشهد الأول منها، وتجب في الثاني.
ومنه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية، لقول أبي إمامة: من السنة ذلك, وهذا من الصحابي في حكم المرفوع، على الصحيح.
ومنه ختم الدعاء, فيستحب الصلاة فيه على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن آكد ذلك دعاء القنوت.
ومنه يوم الجمعة ليلتها, فيستحب الإكثار منها فيهما،
ومنه في خطبة يوم الجمعة, يجب على الخطيب في الخطبتين الإتيان بها.
وهو مذهب الشافعي وأحمد.
ومنه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لحديث (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله علىّ روحي حتى أرد عليه السلام) تفرد به أبو داود(20) وصححه النووي في (الأذكار), وعن الحسن بن الحسن بن علي، أنه رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً, ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً, وصلوا علي حيثما كنتم, فإن صلاتكم تبلغني.
قال ابن كثير: فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة، فنهاهم.
وقد روى أنه رأى رجلاً ينتاب القبر, فقال: يا هذا! ما أنت ورجل بالأندلس، منه إلا سواء. أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين.
وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه.
الثاني ـ الصلاة على غير الأنبياء،
إن كانت على سبيل التبعية، كنحو: اللهم صلي على محمد وآله وأزواجه، فهذا جائز إجماعاً,
وأما استقلالاً
فجوّزه قوم؛ لآية {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الآية، 43]. وآية {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة، 157]. وآية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة، 103]. ولحديث(21) (كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم! صل عليهم, فأتاه أبوا أوفى بصدقته فقال: اللهم! صل على آل أبي أوفى.
وكرهه قوم؛ لكون صيغة الصلاة صارت شعاراً للأنبياء إذا ذكروا, فلا يلحق بهم غيرهم, فلا يقال: قال عمر صلى الله عليه, كما لا يقال قال محمد عز وجل, وإن كان عزيزاً جليلاً, لكون هذا من شعار ذكر الله عز وجل.
وحملوا ما ورد من ذلك في الكتاب والسنة على الدعاء لهم.
وقال ابن حجر: إن ذلك وقع من الشارع, ولصاحب الحق أن يتفضل من حقه بما شاء وليس لغيره أن يتصرف إلا بإذنه ولم يثبت عنه إذن في ذلك.
وقد يقال: كفى في المروىّ المأثور المتقدم إذناً.
والاستدلال بأن ذلك من حقه فيه مصادرة على المطلوب, على أن المرجح أن الأصل الإباحة حتى يرد الحظر, ولا حظر هنا. فتدبر.
وأما السلام,
فقال الجوينيّ: هو في معنى الصلاة, فلا يستعمل في الغائب, ولا يفرد به غير الأنبياء, فلا يقال: على عليه السلام, وسواء في هذه الأحياء والأموات.
وأما الحاضر فيخاطب به, فيقال: سلام عليك، وسلام عليكم, أو السلام عليك أو عليكم, وقد غلب ـ كما قال ابن كثير ـ على كثير من النساخ للكتب، أن يفرد علىّ رضي الله عنه بأن يقال (عليه السلام) من دون سائر الصحابة.
قال: والتسوية بينهم في ذلك أولى.
والخطب سهل.
ومن رأى المرويّ في هذا الباب، علم أن الأمر أوسع من أن يحرج فيه.
على أن هذه المسألة من فروع تخصيص العرف،
الثالث ـ قال النووي: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فليجمع بين الصلاة والتسليم. لا يقتصر على أحدهما, فلا يقول (صلى الله عليه) فقط, ولا (عليه السلام) فقط.
قال ابن كثير: وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة, وهي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليماً.
الرابع ـ قال الرازيّ: إذا صلى الله وملائكته عليه، فأي حاجة على صلاتنا؟
نقول: الصلاة عليه ليس لحاجاته إليها, وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه, وإنما هو لإظهار تعظيمه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه، ولا حاجة له إليه, وإنما هو لإظهار تعظيمه منه، رحمة بنا، ليثبتنا عليه.
ولهذا جاء في الحديث (من صلى عليّ مرة، صلى الله عليه بها عشراً).
وكان سبق لي من أيام معدودات أن كتبت(9) في مقدمة مجموعة الخطب في سر الصلاة عليه، ما مثله: ويُسَنٌّ يوم الجمعة إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته والمنة بإقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلى الله عليه وسلم وعلى آله, ما ذاق عارفٌ سرّ شريعته, وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته.
الخامس ـ قال الرازي: ذكر (تسليماً) للتأكيد ليكمل السلام عليه, ولم يؤكد الصلاة بهذا التأكيد، لأنها كانت مؤكدة بقوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.
وقيل: إنه من الاحتباك, فحذف (عليه) من أحدهما, و(المصدر) من الآخر.
قال القاضي: قيل معنى {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي انقادوا لأوامره, فالسلام من التسليم والإنقياد.
السادس ـ قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام،
فقلت: يحتمل أنا يكون السلام له معنيان: التحية والإنقياد, فأمر به المؤمنين لصحتهما منهم, والله وملائكته لا يجوز منهم الإنقياد، فلم يضف إليهم، دفعاً للإيهام, والعلم عند الله.
وقال الشهاب: قد لاح في تخصيص السلام بالمؤمنين دون الله وملائكته، نكته سرية, وهي أن السلام تسليمه عما يؤذيه, فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم، فناسب التخصيص بهم والتأكيد.
9- في قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الآية، 58].
قال الزمخشري: أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلا غير حق أبداً, وأما أذى المؤمنين والمؤمنات، فمنه ومنه.
في هذه الآية تحريم أذى المسلم، إلا بوجه شرعي, كالمعاقبة على ذنب.
ويدخل في الآية= كل ما حرم للإيذاء, كالبيع على بيع غيره، والسوم على سومه، والخطبة على خطبته.
وقد نص الشافعي على تحريم أكل الإنسان مما يلى غيره، إذا اشتمل على إيذاء.
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عائشة مرفوعاً (أربى الربا عند الله، استحلال عرض امرئ مسلم) ثم قرأ هذه الآية.
وأخرج عن قتادة في هذه الآية: إياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه ويغضب له.
وقد زعموا أن عمر بن الخطاب قرأها ذات يوم، فأفزعة ذلك, حتى ذهب إلى أبي بن كعب, فدخل عليه فقال: يا أبا المنذر! إني قرأت آية من كتاب الله فوقعت مني كل موقع {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية, والله! إني لأعاقبهم وأضربهم, فقال له: إنك لست منهم, إنما أنت مؤدب، إنما أنت معلم.



ثانى عشر : مصادر المفاتيح و هوامش البحث

1- انظر: السخاوي / جمال القراء 1/37
الفيروزابادي / بصائر ذوي التمييز 1/377
الشوكاني / فتح القدير "تفسير سورة الأحزاب"
2- القاسمي / محاسن التأويل "تفسير سورة الأحزاب"
انظر: مكي بن أبي طالب / التبصرة ص297
السخاوي / جمال القراء 1/212
الفيروزابادي / بصائر 1/377
الآلوسي / روح المعاني "تفسير سورة الأحزاب"
محمد غوث / نثر المرجان 5/369
3- انظر: الزنجاني / تاريخ القرآن ص111- 113
4- انظر: الواحدي / أسباب النزول ص236
السيوطي / لباب النقول ص174
5- انظر: البقاعي / نظم الدرر 15/273
الآلوسي / روح المعاني "تفسير سورة الأحزاب"
6- انظر: البقاعي / نظم الدرر 15/273
7- انظر: سعيد حوي / الأساس في التفسير "تفسير سورة الأحزاب"
8- انظر: المراغي / تفسير المراغي "تفسير سورة الأحزاب"
9- انظر: القاسمي / محاسن التأويل "تفسير سورة الأحزاب"
10- رواه: أبو داود، الترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء روى في هذا الباب.
11- أخرجه: ابن ماجة في سننه كتاب الطلاق، باب لا طلاق قبل النكاح.
12- أخرجه: الترمذي.. كتاب: التفسير.
13- كتاب النكاح.....
14- أخرجه الترمذي.. كتاب النكاح، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة.
15- أخرجه في صحيحه.. كتاب: التفسير، سورة الأحزاب، باب قوله {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ}
16- في صحيحه ـ كتاب: النكاح.
17- أخرجه في صحيحه.. كتاب: التفسير، سورة الأحزاب، باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}
18- البخاري... كتاب: الآذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي.
19- الترمذي.. كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيما يقول عند دخول المسجد.
20- أبو داود.. كتاب: المناسك، باب: في زيارة القبور.
21- البخاري.. كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعاؤه لصاحب الصدقة.



فضيلة الدكتور عبد الحي الفرماوي
رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر

ليست هناك تعليقات:

« كَفَّارَةُ المَجْلِسِ »

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ » .